السبت 19 شوّال 1445 هـ

تاريخ النشر : 23-03-2020

حكم الاستدلال بقوله تعالى: ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) على أن أعمال الغير لا تصل إلى الميت

الجواب
قوله - تعالى-: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 39] المراد -والله أعلم- أن الإنسان لا يستحق من سعي غيره شيئًا، كما لا يحمل من وزر غيره شيئًا، وليس المراد أنه لا يصل إليه ثواب سعي غيره؛ لكثرة النصوص الواردة في وصول ثواب سعي الغير إلى غيره وانتفاعه به إذا قصده به، فمن ذلك:
1 - الدعاء:فإن المدعو له ينتفع به بنص القرآن الكريم والسنة، وإجماع المسلمين، قال الله -تعالى- لنبيه - صلى الله عليه وسلم-: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [محمد: 19] وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر: 10] فالذين سبقوهم بالإيمان هم المهاجرون والأنصار، والذين جاءوا من بعدهم هم التابعون فمن بعدهم إلى يوم الدين؛ وثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أنه أغمض أبا سلمة، وقال: «اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه، وافسح له في قبره، ونور له فيه». وكان - صلى الله عليه وسلم- يصلي على أموات المسلمين، ويدعو لهم، ويزور المقابر، ويدعو لأهلها، واتبعته أمته في ذلك حتى صار هذا من الأمور المعلومة بالضرورة من دين الإسلام؛ وصح عنه - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلًا لا يشركون بالله شيئًا إلا شفعهم الله فيه».
وهذا لا يعارض قول النبي - صلى الله عليه وسلم-: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» رواه مسلم لأن المراد به عمل الإنسان نفسه، لا عمل غيره له؛ وإنما جعل دعاء الولد الصالح من عمله؛ لأن الولد من كسبه حيث إنه هو السبب في إيجاده، فكأن دعاؤه لوالده دعاء من الوالد نفسه -بخلاف دعاء غير الولد لأخيه، فإنه ليس من عمله -وإن كان ينتفع به-؛ فالاستثناء الذي في الحديث من انقطاع عمل الميت نفسه لا عمل غيره له، ولهذا لم يقل: انقطع العمل له، بل قال: «انقطع عمله». وبينهما فرق بين.
2 - الصدقة عن الميت: ففي صحيح البخاري عن عائشة - رضي الله عنها- : «أن رجلًا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم-: إن أمي افتلتت نفسها (ماتت فجأة) وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟» قال: «نعم». وروى مسلم نحوه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه-؛ والصدقة عبادة مالية محضة.
3 - الصيام عن الميت: ففي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» والولي هو الوارث؛ لقوله -تعالى-: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: 75] ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم-: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» متفق عليه؛ والصيام عبادة بدنية محضة.
4 - الحج عن غيره: ففي الصحيحين من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما- أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يثبت على الراحلة؛ أفأحج عنه؟ قال: «نعم» وذلك في حجة الوداع. وفي صحيح البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما- «أن امرأة من جهينة قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم-: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء».
فإن قيل: هذا من عمل الولد لوالده؛ وعمل الولد من عمل الوالد كما في الحديث السابق: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث»... حيث جعل دعاء الولد لوالده من عمل الوالد؟ فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم- لم يعلل جواز حج الولد عن والده بكونه ولده، ولا أومأ إلى ذلك؛ بل في الحديث ما يبطل التعليل به؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- شبهه بقضاء الدين الجائز من الولد، وغيره؛ فجعل ذلك هو العلة أعني كونه قضاء شيء واجب عن الميت.
الثاني: أنه قد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم- ما يدل على جواز الحج عن الغير، حتى من غير الولد: فعن ابن عباس - رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- سمع رجلًا يقول: لبيك عن شبرمة قال: «من شبرمة؟» قال: أخ لي أو قريب لي. قال: «حججت عن نفسك؟» قال: لا. قال: «حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة». قال في البلوغ: رواه أبو داود وابن ماجه. وقال في الفروع: إسناده جيد احتج به أحمد في رواية صالح، لكنه رجح في كلام آخر أنه موقوف؛ فإن صح المرفوع فذاك؛ وإلا فهو قول صحابي لم يظهر له مخالف؛ فهو حجة، ودليل على أن هذا العمل كان من المعلوم جوازه عندهم؛ ثم إنه قد ثبت حديث عائشة في الصيام: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه». والولي هو الوارث سواء كان ولدًا أم غير ولد؛ وإذا جاز ذلك في الصيام مع كونه عبادة محضة فجوازه بالحج المشوب بالمال أولى، وأحرى.
5- الأضحية عن الغير: فقد ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك - رضي الله عنه- قال: «ضحى النبي -صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده، وسمى، وكبر ووضع رجله على صفاحهما». ولأحمد من حديث أبي رافع - رضي الله عنه- «أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين فيذبح أحدهما ويقول: اللهم هذا عن أمتي جميعًا من شهد لك بالتوحيد، وشهد لي بالبلاغ». ثم يذبح الآخر ويقول: «هذا عن محمد وآل محمد». قال في مجمع الزوائد: وإسناده حسن، وسكت عنه في التلخيص.
والأضحية عبادة بدنية قوامها المال، وقد ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم- عن أهل بيته، وعن أمته جميعًا؛ وما من شك في أن ذلك ينفع المضحى عنهم، وينالهم من ثوابه؛ ولو لم يكن كذلك لم يكن للتضحية عنهم فائدة.
6 - اقتصاص المظلوم من الظالم بالأخذ من صالح أعماله: ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: «من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها؛ فإنه ليس ثم دينار، ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته؛ فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه». وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: «أتدرون من المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له، ولا متاع. فقال: «إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا؛ فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته؛ فإن فنيت حسناته، قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار».
فإذا كانت الحسنات قابلة للمقاصة بأخذ ثوابها من عامل إلى غيره كان ذلك دليلًا على أنها قابلة لنقلها منه إلى غيره بالإهداء.
7 - انتفاعات أخرى بأعمال الغير: كرفع درجات الذرية في الجنة إلى درجات آبائهم، وزيادة أجر الجماعة بكثرة العدد، وصحة صلاة المنفرد بمصافة غيره له، والأمن والنصر بوجود أهل الفضل، كما في صحيح مسلم عن أبي بردة عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم- رفع رأسه إلى السماء -وكان كثيرًا ما يرفع رأسه إلى السماء-، فقال: «النجوم أمنة للسماء؛ فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي؛ فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون». وفيه أيضًا عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «يأتي على الناس زمان يبعث منهم البعث فيقولون: انظروا هل تجدون فيكم أحدًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم- فيفتح لهم به؛ ثم يبعث البعث الثاني، فيقولون: هل فيكم من رأى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم- فيفتح لهم به، ثم يبعث البعث الثالث، فيقال: انظروا هل ترون فيهم أحدًا رأى من رأى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم- ثم يكون البعث الرابع، فيقال: انظروا هل ترون فيهم أحدًا رأى من رأى أحدًا رأى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم- فيوجد الرجل، فيفتح لهم به».
فإذا تبين أن الرجل ينتفع بغيره وبعمل غيره، فإن من شرط انتفاعه أن يكون من أهله، وهو المسلم؛ فأما الكافر فلا ينتفع بما أهدي إليه من عمل صالح، ولا يجوز أن يهدى إليه، كما لا يجوز أن يدعى له ويستغفر له، قال الله -تعالى-: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [التوبة: 112] وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما- أن جده العاص بن وائل السهمي أوصى أن يعتق عنه مائة رقبة، فأعتق ابنه هشام خمسين رقبة، وأراد ابنه عمرو بن العاص أن يعتق عنه الخمسين الباقية، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: «إنه لو كان مسلمًا فأعتقتم، أو تصدقتم عنه، أو حججتم بلغه ذلك». وفي رواية: «فلو كان أقر بالتوحيد، فصُمتَ، وتصدقت عنه نفعه ذلك». رواه أحمد وأبو داود.
فإن قيل: هلا تقتصرون على ما جاءت به السنة من إهداء القرب، وهي: الحج، والصوم، والصدقة، والعتق؟
ف أن ما جاءت به السنة ليس على سبيل الحصر، وإنما غالبه قضايا أعيان سئل عنها النبي - صلى الله عليه وسلم- فأجاب به، وأومأ إلى العموم بذكر العلة الصادقة بما سئل عنه وغيره، وهي قوله: «أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته». ويدل على العموم أنه قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه». ثم لم يمنع الحج، والصدقة، والعتق، فعلم من ذلك أن شأن العبادات واحد، والأمر فيها واسع.
فإن قيل: فهل تجوز إهداء القرب الواجبة؟
ف أما على القول بأنه لا يصح إهداء القرب إلا إذا نواه المهدي قبل الفعل، بحيث يفعل القربة بنية أنها عن فلان، فإن إهداء القرب الواجبة لا يجوز لتعذر ذلك، إذ من شرط القرب الواجبة أن ينوي بها الفاعل أنها عن نفسه قيامًا بما أوجب الله -تعالى- عليه؛ اللهم إلا أن تكون من فروض الكفايات، فربما يقال: بصحة ذلك، حيث ينوي الفاعل القيام بها عن غيره، لتعلق الطلب بأحدهما لا بعينه.
وأما على القول بأنه يصح إهداء القرب بعد الفعل ويكون ذلك إهداء لثوابها بحيث يفعل القربة ويقول: اللهم اجعل ثوابها لفلان، فإنه لا يصح إهداء ثوابها أيضًا على الأرجح؛ وذلك لأن إيجاب الشارع لها إيجابًا عينيًا دليل على شدة احتياج العبد لثوابها، وضرورته إليه، ومثل هذا لا ينبغي أن يؤثر العبد بثوابه غيره.
فإن قيل: إذا جاز إهداء القرب إلى الغير فهل من المستحسن فعله؟
ف أن فعله غير مستحسن إلا فيما وردت به السنة، كالأضحية، والواجبات التي تدخلها النيابة؛ كالصوم والحج، وأما غير ذلك فقد قال شيخ الإسلام في الفتاوى (ص322-323ج24) مجموع ابن قاسم: "إن الأمر الذي كان معروفًا بين المسلمين في القرون المفضلة أنهم كانوا يعبدون الله بأنواع العبادات المشروعة فرضها ونفلها، ويدعون للمؤمنين والمؤمنات كما أمر الله بذلك، لأحيائهم وأمواتهم"، قال: "ولم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعًا، وصاموا، وحجوا، أو قرءوا القرآن الكريم يهدون ذلك لموتاهم المسلمين، ولا لخصوصهم. بل كان عادتهم كما تقدم، فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريقة السلف، فإنها أفضل وأكمل".اهـ.
وأما ما روي أن رجلًا قال: يا رسول الله إن لي أبوين، وكنت أبرهما في حياتهما فكيف البر بعد موتهما؟ فقال: «إن من البر أن تصلي لهما مع صلاتك، وتصوم لهما مع صيامك، وتصدق لهما مع صدقتك». فهو حديث مرسل لا يصح. وقد ذكر الله -تعالى- مكافأة الوالدين بالدعاء، فقال تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 24]. وعن أبي أسيد - رضي الله عنه- «أن رجلًا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم-: هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما». رواه أبو داود وابن ماجه. ولم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم- من برهما أن يصلي لهما مع صلاته، ويصوم لهما مع صيامه.
فأما ما يفعله كثير من العامة اليوم حيث يقرءون القرآن الكريم في شهر رمضان أو غيره، ثم يؤثرون موتاهم به ويتركون أنفسهم فهو لا ينبغي لما فيه من الخروج عن جادة السلف، وحرمان المرء نفسه من ثواب هذه العبادة، فإن مهدي العبادة ليس له من الأجر سوى ما يحصل من الإحسان إلى الغير. أما ثواب العبادة الخاص فقد أهداه، ومن ثم كان لا ينبغي إهداء القرب للنبي - صلى الله عليه وسلم-؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- له ثواب القربة التي تفعلها الأمة؛ لأنه الدال عليها والآمر بها، فله مثل أجر الفاعل، ولا ينتج عن إهداء القرب إليه سوى حرمان الفاعل نفسه من ثواب العبادة.
وبهذا تعرف فقه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، حيث لم ينقل عن واحد منهم أنه أهدى شيئًا من القرب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- مع أنهم أشد الناس حبًا للنبي - صلى الله عليه وسلم- وأحرصهم على فعل الخير، وهم أهدى الناس طريقًا وأصوبهم عملًا؛ فلا ينبغي العدول عن طريقتهم في هذا وغيره؛ فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
المصدر:
مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين(2/310- 318)

هل انتفعت بهذه الإجابة؟