الأربعاء 23 شوّال 1445 هـ

تاريخ النشر : 24-03-2020

حكم من يفتي بأن من كان في بلد يطول نهاره فعليه أن يصوم بتوقيت مكة المكرمة

الجواب
فالجواب وبالله التوفيق ، ومنه نستمد الهدايا والصواب: قال تعالى : ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾[البقرة: 187] وقال النبي- صلى الله عليه وسلم - : «إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر» وقال أيضاً: «إذا أقبل الليل من ههنا (وأشار إلى المشرق) ، وأدبر النهار من ههنا (وأشار إلى المغرب) وغربت الشمس فقد أفطر الصائم».
ففي هذه الآية الكريمة والحديثين الثابتين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دليل ظاهر على وجوب الإمساك على الصائم من حين أن يطلع الفجر حتى تغرب الشمس في أي مكان كان من الأرض، سواء طال النهار أم قصر، إذا كان في أرض فيها ليل ونهار يتعاقبان في أربع وعشرين ساعة، والولاية التي أنتم فيها: فيها ليل ونهار يتعاقبان في أربع وعشرين ساعة، فيلزم من كان يصوم فيها أن يمسك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بدلالة الكتاب والسنة على ذلك، ومن أفتى بأن من كان في بلد يطول نهاره عليه فإنه يصوم بقدر نهار المملكة العربية السعودية فقد غلط غلطاً بيناً، وخالف الكتاب والسنة، وما علمنا أن أحداً من أهل العلم قال بفتواه. نعم من كان في بلد لا يتعاقب فيه الليل والنهار في أربع وعشرين ساعة كبلد يكون نهارها يومين، أو أسبوعاً، أو شهراً، أو أكثر من ذلك فإنه يقدر للنهار قدره، ولليل قدره من أربع وعشرين ساعة؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم - لما حدَّث عن الدجال، وأنه يلبث في الأرض أربعين يوماً يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة وسائر أيامه كالأيام المعتادة، قالوا: يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم ؟ قال: «لا. اقدروا له قدره» ، وقد اختلف العلماء المعاصرون فيم يقدر الليل والنهار في البلاد التي يكون ليلها ونهارها أكثر من أربع وعشرين ساعة.
فقال بعضهم: يقدر بالتساوي فيجعل الليل اثنى عشر ساعة والنهار مثله، لأن هذا قدرهما في الزمان المعتدل والمكان المعتدل.
وقال بعضهم: يقدر بحسب مدتهما في مكة والمدينة، لأنهما البلدان اللذان نزل فيهما الوحي، فتحمل مدة الليل والنهار على المعروف فيهما إذا لم تعرف للبلد مدة ليل ونهار خاصة به.
وقال بعضهم: يقدر بحسب مدتهما في أقرب بلد يكون فيه ليل ونهار يتعاقبان في أربع وعشرين ساعة، وهذا أقرب الأقوال إلى الصحة، لأن إلحاق البلد في جغرافيته بما هو أقرب إليه أولى من إلحاقه بالبعيد، لأنه أقرب شبهاً به من غيره، لكن لو شق الصوم في الأيام الطويلة مشقة غير محتملة بحيث لا يمكن تخفيفها بالمكيفات والمبردات ويخشى منها الضرر على الجسم أو حدوث مرض، فإنه يجوز الفطر حينئذ، ويقضي في الأيام القصيرة لقوله تعالى في سياق آيات الصيام: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[البقرة: 185]، وقوله: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾[الحج: 78]، وقوله: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾[البقرة: 286] ؟
وخلاصة ما سبق: أن من كان في بلد فيه ليل ونهار يتعاقبان في أربع وعشرين ساعة لزمه صيام النهار وإن طال، إلا أن يشق عليه مشقة غير محتملة يخشى منها الضرر، أو حدوث مرض فله الفطر وتأخير الصيام إلى زمن يقصر فيه النهار.
وأما من كان في بلد لا يتعاقب فيه الليل والنهار في أربع وعشرين ساعة فإنه يقدر الليل والنهار فيه: إما بالتساوي، وإما بحسب مدتهما في مكة والمدينة، وإما بحسب مدتهما في أقرب بلد على الخلاف السابق.
وهذا بالنسبة لأهل البلاد المقيمين فيها إقامة سكنى، فأما من أقام فيها لغرض متى انتهى غادر البلاد فهذا في حكم المسافر، سواء طالت مدة إقامته أم قصرت، وسواء علم أن الغرض ينتهي سريعاً أم يتأخر أم جهل الحال لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾[النساء: 101] وقوله: ﴿وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[المزمل: 20] ومعلوم أن الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله قد يقيمون المدة الطويلة لشراء السلع وبيعها، ولأن النبي- صلى الله عليه وسلم - لم يحدد للأمة مدة ينقطع بها حكم السفر إذا أقاموها، ولو كانت لبينها بياناً ظاهراً لأهميتها ودعاء الحاجة إليها، بل قد أقام النبي- صلى الله عليه وسلم - عام فتح مكة بمكة تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة، وأقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة، وأقام أنس بن مالك - رضي الله عنه - بالشام سنتين يقصر الصلاة، وقال الحسن: أقمت مع عبد الرحمن بن سمرة بكابل سنتين يصلي صلاة المسافر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله إلا مقيم ومسافر، والمقيم هو المستوطن،
ومن سوى هؤلاء فهو مسافر يقصر الصلاة. ا هـ وقال ابن القيم - رحمه الله - : أقام النبي- صلى الله عليه وسلم - بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة، ولم يقل للأمة: لا يقصر الرجل إذا أقام أكثر من ذلك. قال: وهذه الإقامة لا تخرج عن حكم السفر، سواء طالت أم قصرت إذا كان غير مستوطن ولا عازم على الإقامة في ذلك الموضع. اه-
وعلى هذا يكون الحكم بالنسبة لكم ولكل من يسافر لبلاد لا ينوي الإقامة فيها، إلا لغرض معين متى انتهى غادرها أن تكونوا في حكم المسافرين ولو علمتم أن الغرض لا ينتهي إلا بعد مدة على القول الصحيح، فإن لم يكن عليكم مشقة في الصيام في شهر رمضان فالصوم أفضل، اغتناماً للوقت، وإسراعاً في إبراء ذممكم. وإن كان عليكم شيء من المشقة فالفطر أفضل وتقضونه في الأيام القصيرة. وختاماً للجواب: أوصيك بتقوى الله عز وجل، وإقامة دينك والاعتزاز به، والدعوة إليه ببيان فضائله والدفاع عنه ومناصحة من عندك، أو اتصلت به من أبناء المسلمين بالحث على التمسك بدينهم، وبيان أن دين الإسلام عقيدة، وقول، وعمل، وولاء للإسلام وأهله، وعداء للكفر وأهله، وليس مجرد أن يقول: أنا مسلم ثم يترك الصلاة والصيام والزكاة، ويشرب الخمر، وسيخادن النساء ويوالي أعداء الإسلام ويحبهم، لأن الإسلام عقيدة خالصة، وأقوال، وأعمال صالحة، وأخلاق فاضلة عالية، وفقنا الله وإياكم للتمسك به والوفاة عليه، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. 27/7/1392 هـ .
المصدر:
مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين(19/305-311)

هل انتفعت بهذه الإجابة؟