الإثنين 21 شوّال 1445 هـ

تاريخ النشر : 24-03-2020

بيان معنى قوله تعالى: (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر. .)

الجواب
هذه الآية العظيمة فيها التحذير من الشرك والقتل والزنا ، والوعيد لأصحاب هذه الجرائم بما ذكره الله سبحانه وتعالى في قوله: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا﴾[الفرقان: 68] قال بعض المفسرين: إنه جب في جهنم ، وقال آخرون معنى ذلك: إنه إثم كبير عظيم ، فسره سبحانه بقوله: ﴿يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا﴾[الفرقان: 69] فهذا جزاء من اقترف هذه الجرائم الثلاث أنه يضاعف له العذاب ويخلد فيه مهانا لا مكرما ، وهذه الجرائم الثلاث مختلفة في المراتب ، فجريمة الشرك: هي أعظم الجرائم وأعظم الذنوب وصاحبها مخلد في النار أبد الآباد ، لا يخرج من النار أبدا بإجماع أهل العلم ، كما قال الله تعالى في كتابه العظيم: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ﴾[التوبة: 17] وقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[[الأنعام:88]] وقال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾[الزمر:65] وقال في حقهم: ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾[المائدة: 37] والآيات في هذا كثيرة ، فالمشرك إذا مات على شركه ولم يتب فإنه مخلد في النار ، والجنة عليه حرام والمغفرة عليه حرام بإجماع المسلمين ، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ﴾[المائدة: 72]وقال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾[النساء:48]فجعل المغفرة حراما على المشرك إذا مات على الشرك ، أما ما دون الشرك فهو تحت مشيئة الله .
والخلاصة: أن المشرك إذا مات على شركه فهو مخلد في النار أبد الآباد بإجماع أهل العلم ، وذلك مثل الذي يعبد الأصنام أو الأحجار أو الأشجار أو الكواكب أو الشمس أو القمر أو الأنبياء ، أو يعبد الأموات ومن يسمونهم بالأولياء ، أو يستغيث بهم ويطلب منهم المدد ، أو العون عند قبورهم ، أو بعيدا منها ، مثل قول بعضهم: يا سيدي فلان المدد المدد، يا سيدي البدوي المدد المدد، أو يا سيدي عبد القادر أو يا سيدي رسول الله المدد المدد ، الغوث الغوث ، أو يا سيدي الحسين أو يا فاطمة أو يا ست زينب أو غير ذلك ممن يدعوه المشركون ، وهذا كله من الشرك الأكبر والعياذ بالله ، فإذا مات عليه صاحبه صار من أهل النار - والعياذ بالله - والخلود فيها .
أما الجريمة الثانية وهي: القتل ، والثالثة وهي الزنا: فهاتان الجريمتان دون الشرك ، وهما أكبر المعاصي وأخطرها إذا كان من يتعاطاهما لم يستحلهما ، بل يعلم أنهما محرمتان ، ولكن حمله الغضب أو الهوى أو غير ذلك على الإقدام على القتل وحمله الهوى والشيطان على الزنا ، وهو يعلم أن القتل بغير حق محرم ، وأن الزنا محرم ، فأصحاب هاتين الجريمتين متوعدون بالعقوبة المذكورة ، إلا أن يعفو الله عنهم ، أو من عليهم بالتوبة النصوح قبل الموت ، ولعظم هاتين الجريمتين وكثرة ما يحصل بهما من الفساد قرنهما الله بجريمة الشرك في هذه الآية ، وتوعد أهل هذه الجرائم الثلاث بمضاعفة العذاب والخلود فيه تنفيرا منها وتحذيرا للعباد من عواقبها الوخيمة ، ودلت النصوص الأخرى من الكتاب والسنة على أن القتل والزنا دون الشرك في حق من لم يستحلهما وأنهما داخلان في قوله تعالى: ﴿ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾[النساء:48] أما من استحلهما فهو كافر حكمه حكم الكفرة في الخلود في العذاب يوم القيامة . نسأل الله العافية والسلامة .
أما من تاب من أهل هذه الجرائم الثلاث وغيرها توبة نصوحا فإن الله يغفر له ، ويبدل سيئاته حسنات إذا أتبع التوبة بالإيمان والعمل الصالح ، كما قال سبحانه بعدما ذكر هذه الجرائم الثلاث وعقوبة أصحابها: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾[الفرقان: 70]فالله سبحانه يغفر لأهل المعاصي التي دون الشرك إذا شاء ذلك ، أو يعذبهم في النار على قدر معاصيهم ثم يخرجهم منها بشفاعة الشفعاء ، كشفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- وشفاعة الملائكة والأفراط والمؤمنين ، ويبقى في النار أقوام من أهل التوحيد لا تنالهم الشفاعة من أحد فيخرجهم الله سبحانه وتعالى برحمته ؛ لأنهم ماتوا على التوحيد والإيمان ، ولكن لهم أعمال خبيثة ومعاص دخلوا بها النار ، فإذا طهروا منها ومضت المدة التي كتب الله عليهم أخرجوا من النار برحمة من الله عز وجل ، ويلقون في نهر يقال له ( نهر الحياة ) من أنهار الجنة ينبتون فيه كما تنبت الحبة في حميل السيل ، فإذا تم خلقهم أدخلهم الله الجنة ، وبهذا يعلم أن العاصي كالقاتل والزاني لا يخلد في النار خلود الكفار ، بل له خلود خاص على حسب جريمته لا كخلود الكفار ، فخلود الشرك خلود دائم ليس له منه محيص وليس له نهاية ، كما قال تعالى في سورة البقرة في حق المشركين: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾[البقرة: 168] وقال تعالى في سورة المائدة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾[المائدة: 37]، أما من دخل النار من العصاة فإنهم يخرجون منها إذا تمت المدة التي كتب الله عليهم ، وإما بشفاعة الشفعاء ، وإما برحمة الله سبحانه وتعالى من دونها شفاعة أحد ، كما جاء ذلك في أحاديث الشفاعة المتواترة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن فيها أنه يبقى في النار أقوام لم يخرجوا بشفاعة الشفعاء ، فيخرجهم سبحانه منها بدون شفاعة أحد ، لكونهم ماتوا على التوحيد ، وخلود من يخلد من العصاة في النار خلود مؤقت له نهاية ، والعرب تسمى الإقامة الطويلة خلودا ، كما قال بعض الشعراء يصف قوما: أقاموا فأخلدوا . أي طولوا الإقامة، فلا يخلد في النار الخلود الدائم إلا أهلها وهم الكفرة فتطبق عليهم ولا يخرجون منها كما قال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ ﴾[البلد: 19- 20] وقال سبحانه: ﴿إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ﴾[الهمزة: 8- 9]نسأل الله العافية والسلامة.
المصدر:
مجموع فتاوى الشيخ ابن باز(24/259-260)

هل انتفعت بهذه الإجابة؟