الجواب
و أن ههنا ثلاث حقائق يجب مَعرفَتُهَا:
الحقيقة الأولى: اتخاذ الكفار أولياء يتولاهم المسلم ويعينهم ويناصرهم، وهذه لا شكٌ في تحريمها، وأنهما من كبائر الذنوب، لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾[المائدة: 51-52] .
ثم إن كانت الموالاة للكفار على المسلمين الذين هم مسلمون حقيقة، فهي رِدَّةٌ عن الإسلام، فيكون المُوَالي بها كافراً مرتدًّا؛ لأنه موالٍ للكافرين ظاهرًا وباطنًا محاربٌ لشريعة الله تعالى.
مثال ذلك: أن يحصل حرب بين أمة كافرة وأمة مسلمة، فيذهب مع الأمة الكافرة يعينها على الأمة المسلمة.
وإن كانت الموالاة لكفار على كفار فهذه حرام بلا شك لمناصرة الكفار وموالاتهم ظاهراً، وفى كونها ردة عن الإسلام نظر؛ لأنه ربما يناصر هؤلاء على هؤلاء لكون أولئك أهون شرًا على المسلمين؛ وأقل خطراً على دينهم لا لمحبته لظهورهم وانتصارهم على الإطلاق. وقد قال الله تعالى: ﴿الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ﴾[الروم:1- 5].
مثال ذلك: أن يقتتل طائفتان من الكفار فيناصر أحداهما على الأخرى، وليس من موالاة الكفار أن يناصرونا على عدو لنا؛ لأننا لم نتخذهم أولياء بل هم الذين والوا ونصروا ولكن هذه من الحقيقة
الثانية.
الحقيقة الثانية: الاستعانة بالكفار على عدو لنا نقاتله قتال طلب، وهذه في الأصل حرام؛ لأن الكفار أعداء المسلمين كما هم أعداء الله تعالى، فلا يُؤمَنُ شرهم ولا يُطْمَأَنُّ إلى ظاهرهم، ولما رواه مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ( خَرَجَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل بدر، فلما كان
بِحرَّةِ الوَبَرَةِ أدركه رجل، قد كان يذكر منه جرأة ونجدةٌ، ففرح أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رأوه فلما أدركه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : جِئتُ لأَتَّبِعكَ وأصيب معك، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «تُؤمنُ بِالله ورسُوله ؟» قال: ( لا ) ، قال: «فارجعْ، فلن أستعين بمشرك». قالت: ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل، قال له كما قال أول مرة.
قال: «فارجع فلن أستعين بمشرك». قالت: ثم رجع فأدركه بالبيداء فقال له كما قال أول مرة: «تؤمن بالله ورسوله ؟ «قال: ( نعم ) ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «فانطَلِق» ) ، فهذا الرجل رَدَّهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين حين بقي على الشرك، وقَبِلَهُ في الثالثة حين قال: إنه يؤمن بالله واليوم الآخر.
ولكن إذا دعت الضرورة إلى الاستعانة به أي: (بالكافر) ، وكان مأمونًا فلا بأس بذلك، ودليل ذلك ما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «واستأجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رجلاً من بنى الديل هاديًا خِرِّيتا وهو على دين كفار قريش، فأمناهُ فدفعا إليه راحلتيهما، وواعدَاهُ غار ثورٍ بعد ثلاث ليالٍ» ، واسم الرجل هذا عَبد الله بن أُرَيْقط، والخِرِّيت الماهرُ في الدلالة.
ووجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعان به على أن يدله الطريق لينجو من أعدائه قريش مع خطورة الموقف؛ لأن قريشاً كانت تطلبه وقد جعلت مئتي بعير لمن أتى به وأبا بكر.
واستدل ابن القيم- رحمه الله - بما جاء في قصة صلح الحديبية في شأن بُدَيل بن وَرْقاءَ الخُزاعيّ،فقال في سِياقِ ما يستفاد من قصة الحديبية من الفوائد الفقهية (3/301) ، (ط مؤسسة الرسالة التي عليها تعليق الأرناؤوط). ومنها أن الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزةٌ عند الحاجة، لأن عينه الخُزاعي كان كافرًا إذ ذاك، وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو وأخذه أخبارهم، ا. هـ .
وقد نصّ على ذلك أهل العلم في: ( المُغني ) لابن قُدامة، (8/414) ، (ط دار المنار) : ولا يُستَعان بمشرك، وبهذا قال ابن المنذر والجوزجاني وجماعة من أهل العلم، وعن أحمد ما يدل على جواز
الاستعانة به، وكلام الخِرَقي يدل عليه أيضًا عند الحاجة، وهو مذهب الشافعي، لحديث الزهري الذي ذكرناه وخبر صفوان ابن أُميَّة: [خبر الزهري (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعان بناس من اليهود في حربه فأّسهَم لهم». رواه سعيد في سننه. وروي: (أنَّ صفوان بن أُميَّة خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين وهو على شركه فأسهم له وأعطاه من سهم المؤلفة)] .
هكذا ذكرهما المؤلف، قال: ويشترط أن يكون من يستعينُ به حسن الرأي في المسلمين، فإن كان غير مأمون عليهم لم تجز الاستعانة به، ا. هـ . وفي ( المهذَّب ) للشِّيرَازي (18/68) ، (ط المكتبة العالمية).
(ولا نستعين بالكفار من غير حاجة ) ، ثم استدلَّ له بحديث عائشة - رضي الله عنها - ثم قال: ( فإن احتاج أن يستعين بهم فإن لم يكن من يستعين به حسن الرأي في المسلمين لم نستعن به؛ لأنَّ ما
يُخاف من الضرر بحضورهم أكثر مما يرجى من المنفعة، وإن كان حسن الرأي في المسلمين جاز أن يستعين بهم؛ لأن صفوانُ بن أُمَّية شهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في شركه حرب هوازن، ثم قال: وإن احتاج إلى أن يستأجرهم جاز؛ لأنه لا يقع الجهاد له، وذكر في الشرح أنَّه إذ دَعَت إلى ذلك حاجة، كأن يكون في المسلمين قلَّة، ومن يستعين بهم من الكفار يعلم منه حسن نيته في المسلمين، جاز له أن يستعين به.
ثم استدل لذلك بما رواه ابن عبد البر في (الاستيعاب )، وابن سعد في (الطبقات )، ومالك في (الموطأ ) عن ابن شهاب وابن إسحاق، عن أبي جعفر محمد بن على في قصة صفوان ورجوعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الفتح وشهوده حنينا، والطائف وهو كافر. وفى (ص 166) من الجزء المذكور، وإن حضر مشركٌ مع المسلمين في القتال بغير إذن الإمام، لم يُسهم له ولم يرضخ له؛ لأن ضرره أعظم من ضرر المخذل والمرجف بالمسلمين، وإن حضر بإذن الإمام رضخ له ولم يسهم له، وهو قول العلماء كافة إلا الأوزاعي فإنه قال: ( يسهم له ). أ. هـ .
الحقيقة الثالثة: الاستعانة بهم في الدفاع عن البلد إذا اضطر المسلمون إليهم، وهذا أولى بالجواز من الأول، بل قد يكون مطلوبًا على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب حسب خطر المهاجم
ولهذا قال أهل العلم: (إن الجهاد في هذه الحال فرض عين يجب حتى على النساء والشيوخ والصبيان القادرين ). وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾[البقرة: 191] فأمر بقتل من قاتلنا في المسجد الحرام مع أن القتال عنده حرام، لكن الدفاع له شأن آخر.
ولكن متى قلنا بجواز الاستعانة بهم في حال الضرورة، فإن الواجب أن تَتَقَدَّر بقدرِها، وأن يرحلوا عن البلد من حين الاستغناء عنهم؛ لأن بقاءهم في الجيش، جيش السلمين، يؤدي يقينا أو ظنًا
غالبًا إلى فساد كبير، لاسيَّما مع كثرتهم وشعورهم، أو إعطائهم الشعور بأنهم المنقِذُون الحامون وأنهم أبطالُ المعركة، فإن هذا يؤدي إلى عُلوِّهم واستكبارهم واستعبادهم الجيش الإسلامي ومن وراءه، مع أن الواجب على الجيش الإسلامي أن يكون قويًّا بدينه، لا يلحقه وهن ولا ضعف ولا ذل إلا لله تعالى وحده، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[آل عمران: 139]وقال الله تعالى: ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾[محمد: 35] .
وعلى الجيش الإسلامي أن يُعدَّ العُدَّةَ المعنوية الروحية والعدة الحسية المادية؛ لأن الله تعالى بيَّن أن فقدان العُدَّة المعنوية الروحية سبب للخذلان والهزيمة، حيث كانت الهزيمة في أُحد حين وقعت
المعصية من الرماة، وكانت الهزيمة في حُنين حين أساء بعضهم الاعتماد على الله واعتمدوا على كثرتهم، وقالوا: لن نغلب اليوم عن قلة . فهذا هو الإعداد الروحي المعنوي.
أما الحسي المادي فقد قال الله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾[الأنفال: 60]. والقوة: الرمي.
أسأل الله تعالى أن يحمي دينه من أعدائه، وأن يُهيِّئ لنا من أمرنا رشدًا، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
كتبه الفقير إلى الله تعالى محمد الصالح العثيمين في 12/2/1411 هـ .