الإثنين 21 شوّال 1445 هـ

تاريخ النشر : 23-03-2020

هل يوصف قتيل المعركة بالشهيد ؟

الجواب
أَوَدُّ أن أنبِّه إلى أنَّنَا في عصر أصبح وصف (الشهيد) رخيصًا عند الكثير من الناس، حتى كانوا يصفون به من ليس أهلاً للشهادة، وهذا أمرٌ محرم، فلا يجوز أن يشهد لشخص بشهادة إلا لمن شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشهادة تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يشهدَ لشخص معين بأنَّه شهيد، كما جاء في الصحيح: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صعد أحدًا ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان - رضي الله عنهم - ، فارتج الجبل بهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أثبُت أُحد، فإنما عليك نبيٌّ وصدِّيقٌ وشَهيدان» فمن شهِدَ له النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم – بالشَّهادة بعينه، شهدنا له بأنه شهيد، تصديقًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإتباعًا له في ذلك.
القسم الثاني: أن يشهد النبي- صلى الله عليه وسلم - بالشَّهادة على وجه العموم، كما في الحديث الذي رواه مسلم عن أبى هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما تَعدُّون الشهيد فيكم! » قالوا: يا رسول الله من قُتل في سبيل الله فهو شهيدٌ. قال: «إن شهداء أمتي إذن لقليلٌ» قالوا: فمن هم يا رسول الله ؟ قال: «من قُتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مَات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيدٌ».
وهذا القسم لا يجوز أن نُطبِّقه على شخص بعينه، وإنَّما نقول: من اتصف بكذا وكذا فهو شهيد، ولا نخص بذلك رجلاً بعينه؛ لأنَّ الشهادة بالوصف غير الشهادة بالعين.
وقد ترجم البخاري- رحمه الله - لهذه المسألة في (صحيحه): فقال: باب (لا يقال فلان شهيد)، واستدل له بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «الله أَعلمُ بمن يُجاهِدُ في سبيله».وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «الله أعلم بمن يُكْلَمُ في سبيله»أي بمن يُجرح، وساق تحت هذا العنوان الحديث الطويل عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التقى هو والمشركون فاقتَتَلوا، فلما مَال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عسكره ومال الآخرون إلى عسكرهم، وفى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل لا يدع لهم شاذَّة ولا فاذَّة إلا أتبعها يضربها بسيفه، فقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أَمَا إنَّه من أهل النار» فقال رجل من القوم: أنا صاحبه، قال: فخرج معه كلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، قال: فجرح الرجل جرحًا شديدًا فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه بالأرض وذُبابه بين ثدييه ثم تحامل على سيفه، فقتل نفسه، فخرج الرجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: أشهد أنك رسول الله، قال: «وما ذاك ؟ » قال الرجل الذي ذكرت آنفًا أنه من أهل النار، فأعظم الناس ذلك، فقلت: أنا لكم به، وذكر ما حصل،ثمَّ ساق البخاري حديثاً آخر وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ الرجل لَيعمل عمل أهل الجنَّة فيما يبدو للناس وهو من أهل النَّار».
وهذا الاستدلال الذي استدل به البخاري- رحمه الله - على الترجمة استدلال واضح؛ لأنَّ قوله - صلى الله عليه وسلم - : « الله أعلم بمن يجاهد في سبيله، الله أعلم بمن يكلم في سبيله» يدل على أنَّ الظاهر قد يخالف الباطن، والأحكام الأخروية تجرى على الباطن لا على الظاهر، وقصَّة الرجل التي ساقها البخاري- رحمه الله - لهذا العنوان ظاهرة جداً، فنحن لا نحكم بالأحكام الأُخروية على الناس بظاهر حالهم، وإنما نأتي بالنصوص على عمومها، والله أعلمُ هل تنطبق على هذا الرجل الذي ظَاهِره لنا أنه مُتَّصفٌ بهذا الوصف الذي علق عليه الحكم.
وقد ذكر صاحب (فتح الباري) أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خطب فقال: « إنَّكم تقولون في مغازيكم فلان شهيد ومات فلان شهيدًا، ولعله قد أوقَر راحلته - أي أثقلها - من الغلول ألا لا
تقولوا ذلك، ولكن قولوا: كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « مَن مَاتَ في سبيلِ الله أو قُتِلَ فهُو شَهيد» قال في (الفتح ): وهو حديث حسن، وعلى هذا فنحن نَشهدُ بالشهادة على صفة ما جاء في النص، إن كان في شخص معين شهدنا بها للشخص المعين الذي عيَّنه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، وإن كان على سبيل العموم شهدنا بها على سبيل العموم ولا نُطبِّقها على شخص بعينه؛ لأنَّ الأحكام الأُخرَوية تتعلق بالباطن لا بالظاهر.
نسأل الله أن يثبتنا بالقول الثابت وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا إنه سميع مجيب.
المصدر:
مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين(25/395- 399)

هل انتفعت بهذه الإجابة؟