السبت 19 شوّال 1445 هـ

تاريخ النشر : 23-03-2020

الجواب عن الآيات التي استشهدت بها الكنيسة على أن عيسى -عليه السلام- ابن الله

الجواب
ليس في تنوع الأسلوب القرآني وإخبار الله تعالى عن نفسه مرة بصيغة الإفراد، وأخرى بصيغة قد تستعمل في الجمع أحيانا وفي المفرد أحيانا على وجه التعظيم ليس في ذلك دليل على بنوة عيسى -عليه السلام- لله، ولا على إلهيته، وذلك لوجوه.
الوجه الأول: أن تنوع الأسلوب في القرآن بالجمع والإفراد كان قبل أن يخلق الله تعالى عبده عيسى -عليه السلام- وأمه مريم بآلاف السنين وحين خلقهما وبعد أن خلقهما، فلا أثر لوجودهما في تنوع الأسلوب، بل ذلك لأمر آخر يتبين مما يأتي
قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ﴾[الحجر: 26- 27] وقال ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ﴾[الكهف: 50] فجاء الأسلوب متنوعا قبل أن يكون عيسى وأمه عليهما السلام، وقال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾[المائدة: 44] إلى أن قال ﴿فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾[المائدة: 44- 45] إلى أن قال ﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ﴾[المائدة: 46] إلى أن قال: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾[المائدة: 48] وقال ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ﴾[نوح: 1] وقال في خليله إبراهيم عليه السلام: ﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾[مريم: 49- 50] وقال في كليمه موسى عليه السلام: ﴿وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا﴾[مريم: 52- 53] وقال: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾[النساء: 163] الآية، وقال ﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[الأنبياء: 91]
وقال: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ﴾[المائدة: 110] الآيات، وأمثالها من الآيات تنوع في الأسلوب إفرادا وجمعا في خلق عيسى ومخاطبته وقبل خلقه، ومن هذا يتبين أن الأسلوب ما تغير بعد خلق عيسى -عليه السلام- ليكون دليلا على بنوته لله أو إلهيته معه، بل لأمر أخر يعرف من الوجه الثاني.
الوجه الثاني: أن كل من عرف لغة العرب وأسلوبهم في التعبير يعلم أن ضمير التكلم مثل كلمة (أنا)، وتاء المتكلم يستعملها الفرد في الحديث عن نفسه، أما ضمير التكلم لفظ، (نحن)، و (نا)، فيستعملها الاثنان فأكثر، وقد يستعملها الفرد العظيم أو المتعاظم إشعارا بعظمته، وسياق الكلام ومقتضى الحال وما احتف بالحديث من القرائن هو الذي يرشد القارئ والسامع إلى المراد ويعين المقصود، ومن خالف في ذلك فهو إما جاهل عميت عليه الأنباء، وإما معاند يريد التلبيس وتحريف الكلم عن مواضعه، إتباعا للهوى، ويأبى الله إلا أن يحق الحق بكلماته ولو كره المجرمون، ويكشف ذلك الوجه الثالث.
الوجه الثالث: أن القرآن كتاب أحكمت آياته، ثم فصلت من لدن حكيم خبير، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، يفسر بعضه بعضا، ويصدق بعضه بعضا، وقد قال تعالى فيه ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾[مريم: 88-] وقال ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾[الإخلاص: 1-4] وقال ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[آل عمران: 59] فوجب على من آمن به أن يجمع بين آياته، ولزم من استدل بنصوصه أن ينصفه من نفسه، فلا يستدل ببعضه ويعرض عن بعض، وألا يلبس الحق بالباطل ليضرب بعضه ببعض بغيا وعدوانا ترويجا للباطل، كما فعل أسلافهم اليهود بالتوراة، فأنكر الله عليهم ذلك بقوله: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾[البقرة: 85].
وعلى هذا لزم من نحا نحو القرآن ليستدل به أن ينفي بنوة عيسى -عليه السلام- لله وإلهيته مع الله، ويثبت وحدانية الله تعالى، لما ذكر من الآيات، ولقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾ الآيات[المائدة: 72] وأمثال ذلك في القرآن كثير، وإلا فليكفوا عن هذا التلاعب حتى لا يلزمهم العار، ويضحكوا العقلاء من نفسهم، ويحق فيهم المثل القائل (ليس هذا بعشك فادرجي)
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
المصدر:
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(3/294-299)
عبد الله بن قعود ... عضو
عبد الله بن غديان ... عضو
عبد الرزاق عفيفي ... نائب رئيس اللجنة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... الرئيس

هل انتفعت بهذه الإجابة؟