الجواب
لقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - في خطبه يوم الجمعة وفي مناسبات أخرى أن خير الكلام كلام الله، وأن خير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وإذا نظرنا إلى هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجدنا أنه يريد أن تكون الأمة أمة واحدة، لا تتفرق، ولا تختلف، ولا يكون في قلوب بعضها شيء على الآخرين؛ حتى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يترك ما هو اختياره لدرء الفتنة، وحتى أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بالصبر على ولاة الأمور على ظلمهم، وعلى جورهم، وعلى أثرتهم واستبدادهم، وأخبر أن هذا سيكون فقال للأنصار رضي الله عنهم: «إنكم ستلقون بعدي أثرة -أي: استئثاراً عليهم- فاصبروا حتى تلقوني على الحوض»، وقال - صلى الله عليه وسلم - : «من رأى من أميره ما يكره فليصبر»، وقال - صلى الله عليه وسلم - : حينما سأله رجل عن بعض الأمراء يسألون حقهم ويمنعون حق الرعية فقال: «اسمعوا وأطيعوا؛ فإن عليهم ما حُملوا، وعليكم ما حُملتم».
ولا شك أن مما يخالف هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - إيغار الصدور على ولاة الأمور، والحديث بما يوجب كراهتهم وبغضهم، وذلك لأن الأمة الإسلامية يقوم أمرها على صنفين من الناس: على العلماء، وعلى الأمراء، وهم أولو الأمر الذين قال الله عز وجل فيهم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾[النساء:59].
قال المفسرون وغيرهم من أهل العلم: أولوا الأمر منا هم العلماء والأمراء، فالعلماء قادة الأمة بشريعة الله، والأمراء قادة الأمة بسلطان الله عز وجل، فلولا العلماء والأمراء ما استقامت الأمة؛ لأن العلماء يقودون الناس بالشريعة، والأمراء يقودون الناس بالسلطة والتنفيذ.
فإذا تكلم أحد في الأمراء، أو تكلم في العلماء بما يوجب عداوتهم والحط من قدرهم فإن الأمة تضيع؛ لأنه لا يكون لها علماء تثق بأقوالهم فتضيع الشريعة، وليس لديها أمراء تثق بتصرفاتهم فيضيع الأمن، ولهذا نرى أن من الخطأ الفاحش ما يقوم به بعض الناس من الكلام على العلماء أو على الأمراء فيملأ قلوب الناس عليهم بغضاً وحقداً، وإذا رأى شيئاً من هؤلاء؛ يرى أنه منكر، فالواجب عليه النصيحة، وليس الواجب عليه إفشاء هذا المنكر، أو هذه المخالفة، ونحن لا نشك أنه يوجد خطأ من العلماء، ويوجد خطأ من الأمراء؛ سواء كان متعمداً، أو غير متعمد، لكن ليس دواء المرض بإحداث مرض أعظم منه، ولا زوال الشر بشر أشر منه أبداً، ولم يضر الأمة الإسلامية إلا كلامها في علمائها وأمرائها، وإلا فما الذي أوجب قتل عثمان ؟ هو الكلام فيه، تكلموا فيه وأنه يحابي أقاربه، وأنه يفعل كذا، ويفعل كذا، فحملت الناس في قلوبها عليه، ثم تولد من هذا الحمل كراهة، وبغضاء، وأهواء، وعداء؛ حتى وصل الأمر إلى أن قتلوه في بيته وتفرقت الأمة بعد ذلك.
وما الذي أوجب قتل أمير المؤمنين علي بن أبي طلب إلا هذا ؟ خرجوا عليه وقالوا: إنه خالف الشرع وكفروه، وكفروا المسلمين معه، وحصل ما حصل من الشر.
فالواجب علينا أيها الإخوة! ونحن في هذا البلد -ولله الحمد- كما قال السائل بلد آمنة ومطمئنة، يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، وهي من خير ما نعلمه في بلاد المسلمين تطبيقاً للشريعة، وهذا أمر مُشاهد، ولا نقول: إنها تامة مائة في مائة، بل عندهم قصور كثير، ويوجد ظلم، ويوجد استئثار، لكن الظلم إذا نسبته إلى العدل وجدت أنه لا شيء، ومن الظلم أن ينظر الإنسان إلى الخطأ، ويغمض عينيه عن الصواب، فإذا كان كذلك فالواجب أن الإنسان يحكم بالعدل لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾[النساء:135] وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا﴾[المائدة:8] وشنئان يعني: بغض، ويجرم بمعنى يحمل -أي: لا يحملنكم بغض قوم على ألا تعدلوا ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾[المائدة:8].
فأقول: إننا -ولله الحمد- في بلاد آمنة ولله الحمد والمنة، وهي خير ما نعلمه في بلاد المسلمين في تطبيق الشريعة، فالواجب علينا أن نحرص على توحيد الكلمة ما استطعنا، وأن نجعل الخلاف الذي يكون بيننا من باب الاجتهاد المأجور صاحبه مع حسن النية؛ إما أجرين إن أصاب أو أجراً واحداً إن أخطأ، وأن نتناقش فيما بيننا -فيما يظن بعضنا أنه خطأ- حتى نصل إلى الصواب جميعاً، وإذا علم الله من نيتنا أننا نريد الحق يسره الله، ويسر لنا الاجتماع عليه، هذا ما أحببت أن أقوله حول هذا الموضوع، وأرى أنه يجب الكف عن نشر مساوئ الناس ولا سيما العلماء والأمراء، وأنه يجب إصلاح الخطأ بقدر الإمكان، ولكن بالطريقة التي يحصل بها المقصود ونسلم فيها من المحذور.