الإثنين 21 شوّال 1445 هـ

تاريخ النشر : 08-09-2023

هل تارك الصلاة يخلد في النار ؟

الجواب

إذا قيل: هَذَا كَافِرٌ كُفْرًا مُخْرِجًا عن المِلَّةِ، فَإِنَّهُ يلزَمُ أَنْ يُخَلَّدَ في النارِ؛ ولذلك إذا ماتَ شخصٌ لا يُصَلِّي ومات وهو تارِكٌ للصلاةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُحِلُّ لأقارِبِه أَنْ يُغَسْلُوه، أو يُكَفِّنُوه، أو يأْتُوا به للصلاةِ عَلَيْهِ أمامَ الْمُسْلِمِينَ، بل يَخْرُجُونَ بِه إِلى الصحراء، ويَحفِرُونَ له حُفْرَةٌ، ويَغْمِسُونه فِيهَا.

كذلك أَيْضًا لَا يحق لأقارِبِه أَنْ يَدْعُوا اللَّهَ لَهُ بِالمَغْفِرَةِ والرَّحْمَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنَ الاعتداء في الدُّعاءِ، كيف تسألُ الله أَنْ يَفْعَلَ ما أخْبَرَ عن نَفْسِهِ أَنه لَا يَفْعَلُه! هَذَا مُناقِضٌ واعتداءٌ في الدُّعاءِ فـ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48] فلو دَعَوْتَ الله أَنْ يَغْفِرَ للمُشْرِكِ؛ لكُنتَ دَعوتَ الله أَنْ يُكَذِّبَ خَبَرَهُ، وَهَذَا عدوانفي الدُّعاءِ.

ولذلك فإن مَنْ ماتَ له مَيِّتٌ عَلَى تَرْكِ الصَّلاةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يحِلُّ له أَنْ يَقُولَ: اللهُمَّ اغْفِرْ له، ولا يحلُّ له أَنْ يدْعُو له بالرَّحْمَةِ، ولا يحلُّ له أن يعتَمِرَ له، أو أَنْ يَتَصَدَّقَ له؛ لأن كلَّ هَذَا خلافُ ما جاءتْ بِه الشَّرِيعَةُ.

وأنت يا أخي المسلم، لا تعَجَبْ مِن هذا، لَا تَقُل: كَيْفَ أَتَبَرَّأُ مِن أَبِي؟ كَيْفَ اتبرأ من أخي؟ كَيْفَ أَتَبَرَّأُ مِن ابْني مثلًا؟ لا تقل هكذا، فإبراهيمُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- تَبَرَّأَ مِن أبيه، قالَ تَعَالَى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُم﴾ [الممتحنة: ٤]، وقالَ اللهُ -عَزَوَجَلَّ-: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْه﴾ [التوبة: ١١٤]، ما قال: هَذَا أَبِي، بَلْ ﴿تَبَرَّأَ مِنْه﴾.

فالبَرَاءُ والوَلاءُ أمرٌ عظيمٌ، يجبُ عَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يَجْعَلَهُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ دَائِمًا، وَأَنْيوالي في اللهِ وللهِ، وَأَنْ يعادِيَ في اللهِ وللهِ.

ذكَرْنَا أَنه مَخَلَّدٌ، وكلُّ إنسانٍ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بالكُفْرِ المطلَقِ، فَهُوَ مخلَّدٌ في النارِ.

فإن قال قائلٌ: لقد جاءَ في الحدِيثِ: (مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ دَخَلَ الجَنَّةَ).

قلنا:نَعَمْ: (مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ) صَحِيحٌ، لكن مَنْ قَالَهَا عَامِلًا بمُقْتَضَاها، قائمًا بما تَدُلُّ عليه، وإلا فالمنافِقُونَ يقولون: لا إله إلا الله، فالذين جاؤوا للرَّسولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ﴿قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾ [المنافقون: ١] شهادَة هَذِهِ مَؤكَّدَة، فالجُملَةُ الخَبَرِيَّةُ الآن مؤكَّدَةٌ بِثَلاثَةِ مؤكَّدَاتٍ: ﴿نَشْهَدُ﴾، و(إنا)، و(اللام)، ثلاثَةُ مؤكّدَاتٍ: ﴿قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾ ماذا كَانَ جَوابُهُم؟ قالَ اللهُ -عَزَّوَجَل-: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾، فَشَهِدَ شَهادَةً أكمْلَ مِن شَهادَتِهِمْ مؤكَّدَةً بما أَكَدُوا بِه شهادَتَهُم ﴿يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾.

وتأمَّلْ بلاغَةَ القُرْآنِ: أَتَى بقولِهِ: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِقولِهِ: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾؛ لأنه لو قال: «قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لرسولُ اللهِ واللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لكاذِبُونَ» لكان قَدْ يَتَبادَرُ للذَّهْنِ أَنهم لكاذِبُونَ فِي قولِهِمْ: إنكَ رَسولُ اللهِ، فصار الاحترازُ مقَدَّمًا، قالَ: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾؛ لِئَلَّا يتبادَرُ إلى الذَّهْنِ هَذَا المعنى الفاسِدُ، ثم قال بعد ذلك: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾.

فقوله -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: (مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ) لَا بُدَّ أَنْ تُقَيَّدَ، كما في بَعض ألفاظِ حديثِ عِتْبَانَ بنِ مالكٍ: (فَإِنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ)، ومَن ابْتَغَى بِذَلِكَ وَجْهَ الله، فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْمَلَ العملَ الَّذِي يُوَصِّلُ إِلى هَذَا المَقامِ العَظِيمِ.

المصدر:

[دروس وفتاوى من الحرمين الشريفين للشيخ ابن عثيمين (13/21-23)].


هل انتفعت بهذه الإجابة؟