الأربعاء 23 شوّال 1445 هـ

تاريخ النشر : 24-03-2020

عدة مسائل مهمة في أحكام الفتوى

الجواب
والجواب على هذه المسائل العظيمة بعون الله وتوفيقه أن نقول مستمدين من الله تعالى الهداية والصواب.
أما المسألة الأولى: فمتى تبين للإنسان ضعف ما كان عليه من الرأي، وأن الصواب في غيره، وجب عليه الرجوع عن رأيه الأول إلى ما يراه صوابًا بمقتضى الدليل الصحيح، وقد دل على وجوب الرجوع كتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وقول الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم-، وإجماع المسلمين وعمل الأئمة.
أما كتاب الله تعالى: فمن أدلته قوله تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾[الشورى: 10] فمتى كان الحكم في مسائل الخلاف إلى الله وجب الرجوع فيها إلى ما دل عليه كتاب الله. وقال تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾[النساء: 59]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾[النساء: 115]، ومن سبيل المؤمنين الرجوع إلى ما دل عليه كتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
وأما السنة: فمن أدلتها قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي». والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وأما أقوال الخلفاء الراشدين: فمن أشهرها قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في المشركة، وهي زوج وأم وإخوة لأم، وإخوة أشقاء، حيث منع الإخوة الأشقاء من الميراث لكونهم عصبة، وقد استغرقت الفروض التركة، ثم قضى بعد ذلك بتشريكهم مع الإخوة لأم، فقال له رجل: قد قضيت في هذا عام الأول بغير هذا، فقال: وكيف قضيت؟ قال: جعلته للإخوة للأم ولم تجعل للإخوة من الأب والأم شيئًا، فقال عمر: (ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضي). أخرجه ابن أبي شيبة 11/253، وقال -رضي الله عنه- في كتابه لأبي موسى -رضي الله عنه- في القضاء: (لا يمنعك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك، فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل).
وأما الإجماع: فقال الشافعي -رحمه الله-: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس.
وأما عمل الأئمة: فها هو الإمام أحمد -رضي الله عنه- يقول القول، ويقول بخلافه، فتارة يصرح بالرجوع كما صرح بالرجوع عن القول: بوقوع طلاق السكران.
وتارة يصرح أصحابه برجوعه عنه كما صرح الخلال برجوع الإمام عن قوله فيمن ابتدأ مسح خفيه مقيمًا ثم سافر أنه يتم مسح مقيم إلى القول بأن يتم مسح مسافر. وتارة لا يصرح ولا يصرح عنه برجوع فيكون له في المسألة قولان.
والمهم أنه متى تبين للإنسان ضعف رأيه الأول وجب عليه الرجوع عنه، ولكن لا يسوغ له نقض حكمه الأول ولا يلزمه إخبار المستفتي بالرجوع؛ لأن كلا من الرأيين الأول والثاني صادر عن اجتهاده، والاجتهاد لا ينقض بمثله، وظهور خطأ اجتهاده الأول لا يمنع احتمال خطئه في الثاني، فقد يكون الاجتهاد الأول هو الصواب في الواقع، وإن ظهر له خلافه؛ لأن الإنسان غير معصوم في اجتهاده لا الثاني ولا الأول.
وأما المسألة الثانية: فجوابها يعلم من جواب المسألة الأولى وهو أنه يجب على الإنسان الرجوع إلى ما تبين له أنه الصواب، وإن كان يفتي أو يحكم بخلافه سابقًا.
وأما المسالة الثالثة: فإن كان في المسألة نص، كان الناس فيها سواء، ولا يفرق فيها بين شخص وآخر، وأما المسائل الاجتهادية فإنها مبنية على الاجتهاد، وإن كان الاجتهاد فيها في الحكم فكذلك في محله، ولهذا لما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن الناس كثر شربهم الخمر زادهم في عقوبتها، ولما رآهم تتابعوا في الطلاق الثلاث أمضاه عليهم، ولهذا ما يؤيده من كلام الله تعالى، وما جاءت به السنة ففي كتاب الله تعالى يقول جل ذكره: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ [الأنعام: 146]، فعاملهم الله بما تقتضيه حالهم وحرم عليهم هذه الطيبات ببغيهم وظلمهم: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾[النساء: 160].
وفي السنة جاء قتل شارب الخمر في الرابعة إذا تكررت عقوبته ثلاثًا ولم يقلع، مع أن عقوبة شارب الخمر في الأصل لا تبلغ القتل.
فإذا كانت حال المستفتي أو المحكوم عليه تقتضي أن يعامل معاملة خاصة عومل بمقتضاها ما لم يخالف النص.
وكذلك إذا كان الأمر قد وقع وكان في إفتائه بأحد القولين مشقة وأفتى بالقول الثاني فلا حرج، مثل أن يطوف في الحج أو العمرة، بغير وضوء ويشق عليه إعادة الطواف لكونه نزح عن مكة أو غير ذلك، فيفتي بصحة الطواف بناء على القول بعدم اشتراط الوضوء فيه. وكان شيخنا عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- يفعل ذلك أحيانًا ويقول لي: هناك فرق بين من فعل ومن سيفعل، وبين ما وقع وما لم يقع. وفي مقدمات (المجموع) للنووي -رحمه الله- 1/88 ط المكتبة العالمية: قال الصيمري: إذا رأى المفتي المصلحة أن يفتي العامي بما فيه تغليظ وهو مما لا يعتقد ظاهره وله فيه تأويل جاز ذلك زجرًا له، كما روي عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنه سئل عن توبة القاتل فقال: لا توبة له، وسأله آخر فقال: له توبة، ثم قال: أما الأول: فرأيت في عينه إرادة القتل فمنعته، وأما الثاني فجاء مستكينًا قد قتل فلم أقنطه.
وهذا الذي ذكرناه لا يكون مطردًا في كل صورة، فلو أراد قاض أو مفت أن يأخذ في ميراث الإخوة مع الجد بقول من يرى توريثهم إذا رأى أنهم فقراء وأن التركة كثيرة، وبقول من لا يرى توريثهم إذا كان المال قليلاً وهم أغنياء لم يكن ذلك سائغًا؛ لأن في هذا إسقاط لحق الغير لمصلحة الآخرين بلا موجب شرعي. هذا والله أسأل أن يلهمنا جميعًا الصواب في القول والعمل والاعتقاد.
المصدر:
مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين(26/396)

هل انتفعت بهذه الإجابة؟