الأحد 20 شوّال 1445 هـ

تاريخ النشر : 07-09-2023

حكم الاستدلال بحديث الشفاعة على عدم كفر تارك الصلاة

الجواب

هذه مسألةٌ عظيمَةٌ وخَطيرَةٌ، والتكْفِيرُ لَيْسَ بالأمر الهَيِّنِ، فالتكفير وعدَمُ التكفير، والتَّفْسِيقُ وعدَمُ التَّفْسِيقِ، يرجعُ إِلى اللهِ ورسولِهِ.

كما أن التحليل والتَّحريم والإيجابَ إلى اللهِ وَرَسُولِهِ، فلا يُحِلُّ لأحدٍ أَنْ يُكَفِّرَ مَن لم يُكَفِّرُهُ اللهُ ورَسولُهُ، ولا يحِلُّ لأحَدٍ أَنْ يَتَهَيَّبَ تكفِيرَ مَنْ كَفَرَهُ اللهُ ورَسولُهُ، فالحُكْمُ فيمَن كفِّرَهُ الله ورسوله إلى اللهِ وَرَسُولِهِ، فلا يجوز أن نُكَفِّرَ ولا نبالي، فمَن لم يكفِّرْهُ اللهُ ورَسولُهُ فحرام علينا أن نُكَفِّرَهُ؛ لأَن ذَلِكَ قَولٌ عَلَى اللَّهِ بِلا عِلْمٍ مِن جهَةٍ، وإهْدَارُ لدَمِ المُسْلِمِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، والمسألة خطيرة جِدًّا.

وقد اختلف العلماء قدِيمًا وحَدِيثًا في كُفْرِ تارِكِ الصَّلاةِ، وليسَ وليدَ عَهْدِهِ، لكِنْ حاضَ النَّاسُ فيه الآن لكثْرَةِ التارِكِينَ للصلاة -هدانا الله وإياهم- وَكَانَ الناسُ قبلَ ذلِكَ نادرًا ما يترَكُونَ الصَّلاةَ، فلم يكُنْ هَذَا الموضوعُ مُثَارًا للأخذ والرَّدُ والجدل.

ومن المعلوم أنه عندَ النزاع والخِلافِ يجبُ الرَّدُّ إلى كتابِ اللهِ، وسُنَّةِ رَسُولِهِ؛ لقول الله تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلى الله﴾ [الشورى: ١٠] وقَوْلِهِ تعَالَى: ﴿فَإِن تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء: ٥٩].

وأنا بعدَ البَحْثِ التَّامُ ومراجَعَةِ الأقوالِ فيها تبيَّنَ لي أنَّ تارِكَ الصَّلاةِ كَسَلًا وتهاونًا كافرٌ كُفْرًا أكبرَ مُخْرِجًا عن الملَّةِ ومُرْتَدَّ.

ونحن لا نقولُ هَذَا بِلا دَلِيلِ، بل نعوذُ باللهِ أَن نُكَفِّرَ أحدًا لم تَقْتَضِ الأَدِلَّةَ كُفْرَهُ، ونَرَى أَنَّ هَذَا مِنْ أَكبَرِ الجُرْمِ؛ أَن نُكَفِّرَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِلا دليل.

لكننا راجَعْنَا القُرآنَ والسُّنَّةَ، وكلام الصحابَةِ، والمَعْنَى الصحِيحَ، فوجَدْنَا كُلَّ هذِهِ الأدِلَّةِ الأربعَةِ تدُلُّ عَلَى كُفْر تارِكِ الصَّلاةِ، ثم نظَرْنَا في أدِلَّةِ القائلينَ بعدَم التَّكْفِيرِ، فَوَجَدْنَاهَا لَا تَخْلُو مِن خمسَةِ أَقسامٍ:

الأول: إما أنه ليسَ فِيهَا دَلالَةٌ أَصْلًا.

الثاني: وإما أنّها مقيَّدَةٌ بوَصْفِ لَا يمكِنُ معَه تركُ الصَّلاةِ.

الثالث: وإما أنَّهم تَرَكُوا الصَّلاةَ لعُذْرِ.

الرابع: وإما أنها أدِلَّةٌ ضعيفَةٌ.

الخامس: وإما أنها أدِلَّةٌ عامَّةٌ مخصَّصَةٌ بأدلَّةِ كُفْرِ تارِكِ الصَّلاةِ.

إذن: أدِلَّهُ مَن قال بعدَمِ تكفِيرِ تارِكِ الصَّلاةِ لَا تَخْلُو مِنْ وَاحِدٍ مِنَ الأَقسامِ الخَمْسَةِ.

فمِنَ الأَوَّلِ: مَن استَدَلُّوا بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ [النساء: ١١٦] ولكِنَّ الآيةَ لَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أن تارِكَ الصَّلاةِ لَا يَكْفُرُ، والرسولُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قال في حَدِيثِ جَابِرٍ: (بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنِ الكُفْرِ وَالشِّرْكِ تَرْكُ الصَّلَاةِ).

ومن الثَّانِي: مَن استَدَلُّوا بحديثِ عِتْبَانِ بنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: (فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ). ولكن كَلِمَة: يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ) قَيْدٌ لَا يُمكن إطلاقًا إذا تحقَّقَ وجوده في الإِنْسَانِ أَنْ يحافِظَ عَلَى تَرْكِ الصَّلاةِ، فَهَلْ مَنْ يَتْرُكُ الصَّلاةَ يريدُ وَجْهِ اللهِ؟ أَبدًا، فأي إنسانٍ يبتَغِي وَجْه الله لَا بُدَّ أَنْ يحافِظَ عَلَى صَلاتِهِ، لَا عَلَى تَرْكِ الصَّلاةِ.

ومن الثالث: مَن استَدَلَّ بعضُهم بحديثِ حُذَيْفَةَ: (يَدْرُسُ الإِسْلَامُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ التَّوْبِ، حَتَّى لَا يُدْرَى مَا صِيَامٌ، وَلَا صَلَاةٌ، وَلَا نُسُكٌ، وَلَا صَدَقَةٌ، وَلَيُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللهِ -عَزَ وَجَلَّ- فِي لَيْلَةٍ، فَلَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ، وَتَبْقَى طَوَائِفُ مِنَ النَّاسِ الشَّيْخُ الكَبِيرُ وَالعَجُوزُ، يَقُولُونَ: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الكَلِمَةِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَنَحْنُ نَقُوها) فَقَالَ لَهُ صِلَةٌ: مَا تُغْنِي عَنْهُمْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا صَلَاةٌ، وَلَا صِيَامٌ، وَلَا نُسُكٌ، وَلَا صَدَقَةٌ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ حُذَيْفَةً، ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ ثَلَاثًا، كُلَّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ حُذَيْفَةُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فِي الثَّالِثَةِ، فَقَالَ: "يَا صِلَةُ، تُنْجِيهِمْ مِنَ النَّارِ" ثَلَاثًا. لكن هؤلاء معْذُورونَ؛ لأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مِن شَعَائِرِ الإِسلامِ إِلَّا (لا إله إلا الله) فهؤلاءِ مَعْذورونَ، لا يعلَمُونَ أنَّ هناك صلاةٌ، أو زكاة، أو غيرها.

ومن الرابع: أحاديث ضعيفَةٌ؛ وهي كثيرَةٌ، لكنَّ الضَّعِيفَ لَا يُحتج به، فكيف إذا عارضه الصحيح؟

ومن الخامس: هُنَاكَ عامٌ مخصَّصٌ، مِثلُ أَحادِيثِ الشفاعَةِ، وقد جاءَ فِيهَا: (يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنِى مِثْقَالِ حَبَّةٍ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانِ) أو: حَدِيثُ صاحب البطاقة؛ الَّذِي مُدَّ لَهُ صحَائِفُ كلُّهَا أعمالٌ سَيِّئَةٌ، وأُوتِيَ بِبِطاقَةٍ فِيهَا (لا إله إلا الله) فَرَجَحَتْ بِهَا، وسَلِمَ مِنَ النَّارِ.

وَهَذَا عَامٌ، وليس هناك حديث واحِدٌ يَقُولُ فِيهِ الرَّسُولُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: مَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ دخَلَ الجنَّةَ. فالعُمُومات مخصَّصَةٌ بأحادِيثِ تَرْكِ الصَّلاةِ.

ونحن إذا قُلْنَا هَذَا فليس معناه: أن نُكَفِّرَ المُسْلِمِينَ، بل مَعْناه: أن نَدْخُلَ المُسْلِمِينَ في إسلامِهِمْ؛ لأن مَن سَمِعَ بأن تارِكَ الصَّلاةِ يَكْفُرُ فلن يتركها، وسوف يعود إلى الإسلام ويُصَلِّي، لكن مَنْ قِيلَ له: إن هَذَا فِسْقٌ، وإِنكَ مَآلُكَ إِلى الجَنَّةِ، تَهَاوَنَ أكثر.

ومِثل مَنْ قالَ: إنكُمْ إذا كَفَرْتُم تارِكَ الصَّلاةِ كَفَرْتُم كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَنْ قال: إنكم إذا قطعتُمْ يدَ السارِقِ صارَ نِصفَ الشعب أشَّلَّ، ولكن لعلَّ هَذَا يَتحَدَّثُ عن شَعْبِهِ، أَنَّ نِصفَهُم سُرَّاقٌ، فنقول له: إِنَّنا إذا قَطَعْنَا يدَ السارِقِ صارَ المائةُ سَارِقِ واحدًا، وانتهى الناسُ عن السَّرِقَةِ.

وانظر إلى كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- في الإشارة إلى هَذَا المعنَى؛ حيثُ قال تعَالَى: ﴿وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ [البقرة: ١٧٩].

مع أن مَنْ لَا يَنْظُرُ إلى الغَايَةِ يَقُولُ: إذا قتلْنَا القاتِلَ أصبحَ القَتْلَى اثنينِ؛ فلماذا نقتله؟
فنقول: لا؛ أنتَ إِذا قَتَلْتَ القاتِلَ امْتَنَعَ عن القتل عشرات القتلة؛ ولهذا قال تعَالَى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ [البقرة:۱۷۹]فنحنُ إذا قُلْنَا للمسلِمِينَ: إِن الصَّلاةَ أمْرُها عظيم، وشأنها كبير، ولا يُوجَدُ شيءٌ مِنْ فُروضِ الإِسلام فَرْضُ مِنَ اللَّهِ إلى الرسول بلا واسِطَةٍ، ولا شيء من الإسلامِ فُرِضَ فوقَ السماواتِ العُلا؛ ورَسولُ اللهِ هناك، إلا الصَّلاة، فشأنُها عَظيمٌ ، ومَن تَرَكَهَا كَانَ كَافِرًا مِرْتَدًّا، فسوفَ يَرجِعُ عن تركها آلاف الناس، لكن إذا قُلْنا: لا، وتَرْكُ الصَّلاةِ مِن جُمْلَةِ الفِسْقِ، تهاونَ الناسُ بِهَا.

المصدر:

[دروس وفتاوى من الحرمين الشريفين للشيخ ابن عثيمين (13/33-36)].


هل انتفعت بهذه الإجابة؟