الإثنين 21 شوّال 1445 هـ

تاريخ النشر : 08-09-2023

حكم إعطاء الزكاة للمتهاون في الصلاة

الجواب

أَمَّا إذا كانَ هَذَا المتهاون في الصَّلاة إذا دفعت إليه الزَّكَاة لم يُصَلِّ، وإن لم تدفع صَلَّى، بمعنى: رجلٌ إذا دفعت إليه الزَّكَاة ترك الصلاة؛ لأنه صار غنيًّا، وذهب يلعب في الأسواق، يشتري هَذَا ويبيع هذا، وترك الصلاة، وإن لم تدفع إليه الزَّكَاة فالفقر قَدْ يكون خيرًا له، فصلى، فَهَلْ تدفع إليه الزَّكَاة؟

نقول: لا، فإذا كانَ دفع الزَّكَاة يستعين به عَلَى ترك الصَّلاة، قلنا: لا تدفع إليه الزَّكَاة، فهَذَا حرام، أَمَّا إذا كانَ دفع الزَّكَاة يُشَجّعه عَلَى الصَّلاة، ويقول: الحمد لله، عندي ما يَكْفِيني، فأذهب لأُصَلِّي، ولا حاجة إلى أن أذهب إلى الأسواق، فهذا يُعطى.

بقي قسم ثالث: إذا كانَ دفع الزَّكَاة لَا ينفعه ولا يضره، لَكِنَّهُ لَا يصلي، نظرنا إِنْ كَانَ لَا يُصَلِّي أبدًا، فإنَّه لا تُدفع إليه الزَّكَاة، فإذا كانَ لَا يُصَلِّي أبدًا لَا فِي البيت، ولا في المَسْجِد، فهذا لا تدفع إليه الزَّكَاة؛ لأنَّه كافر مرتد، فهذا لا يجوز أَنْ يبقى على وجه الأرض، بل يُستتاب، فإن صَلَّى وإلا قتل كافرًا مرتدًا؛ لأنَّ ترك الصَّلاة كفر بدليل القُرْآن والسنّة، وكلام الصَّحَابَة، والنظر الصحيح -يعني العقل- فالصَّلاة ليست هيئة.. فأيُّ فرض فرضه الله عَلَى الرَّسُول -صلى الله عليه وسلم- مباشرةً بِدُونِ واسطةٍ؟ إِنَّهَا الصَّلاة، وأيُّ فرض لم يَفرِضْه الله -عَزَّ وَجَلَّ- إِلَّا وَالرَّسُول -صلى الله عليه وسلم- فِي الملأ الأعلى؟ إِنَّهَا الصَّلاة. وأيُّ فرض فرضه الله عَلى عباده عَلَى وجه كبير، ثمَّ خُفِّفَ؟ إِنَّهَا الصَّلاة.

إذن لا شيء يُساويها من الأركان إِلَّا شهادة أن لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وأن مُحمَّدًا رسول الله.

فنقول: قَدْ دلَّ القُرْآن والسنّة وكلام الصَّحَابَة عَلَى أن تارك الصَّلاة كافر كُفْرًا أكبر مخرجًا عن الملة، ولا عبرة بمَن قالَ سِوى ذلك؛ لأنَّ المرجع عند النزاع إلى الكتاب والسُّنَّة.

قالَ الله تَعَالَى في المشركين: ﴿فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [التوبة:۱۱]يعني: وإن لم يفعلوا ذَلِكَ فَلَيْسُوا إخوانًا لنا في الدين، ولا يمكن أن تنتفي الأُخُوَّة الإيمانيَّة مَعَ وجود الإيمان أبدًا، حتّى لو فعل الإِنْسَان أكبر الكبائرِ ما عدا الكفر، فإنَّه أخونا، أرأيتم لو اقتتل المُسْلِمُونَ -اقتتل شخصان أو طائفتان- هَلْ هَذَا الاقتتال يُخرجهم من الإسلام؟

نقول: لا يخرجهم، والدليل قوله تَعَالَى: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ [الحجرات: ٩ - ١٠].

وقال في القاتل عمدًا: ﴿فَمَنْ عُفِي لَهُ مِنْ أَخِيهِ﴾ وهو المقتول ﴿شَيْءٌ فَاتبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة:۱۷۸]، فجعله أخًا له، مَعَ أن القتل من أكبر الكبائر المتعلقة بحق المخلوقين.

إذن نَفْيُّ الأُخوَّة الإيمانية في الآية الكريمةِ فِي سُورَة التَّوْبَة يدلُّ عَلَى أن الكفر في تركِ الصَّلاة كفر أكبرُ مُخرج عن الملة، فلا يمكن أَنْ يَكُونَ أَخًا لنا، وإذا لم يمكِنْ أَنْ يَكُونَ أخًا لنا، فَهُوَ مُفارِق لنا فِي الدِّين.

لكن هَذَا الدَّلِيل يَرِد عَلَيْهِ سؤال: إذا قلتَ ذَلِكَ فَيَلزَم من هَذَا أن من لم يُزَكِّ فَهُوَ كافر أيضًا كفرًا مخرجًا عن الملة، قال تعالى: ﴿فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [التوبة: ١١] فالأوصاف الَّتِي تُوجب الأخوة ثلاثة: التَّوْبَة مِن الشرك، وإقامة ،الصَّلاة، وإيتاء الزَّكَاة، فيقول القائل: أنت تقول: إن مَن لم يَتُبْ مِن الشرك فليس أخًا لنا، وَهَذَا واضح، ومَن لم يُقِمِ الصَّلاةَ لَيْسَ أخًا لنا، فإذن قُل: مَن لم يُؤتِ الزَّكَاة فليس أخًا لنا، وإلا لحَصَل تناقض في الاستدلال؟

نقول: نعم، الآية تدل عَلَى أن مَن لم يُؤتِ الزَّكَاة فليس أخًا لنا في الدين، وأنه كافر كفرًا مُخْرِجًا عن الملة، وقد قال بهذا بعض العلماء، وممن قال به الإمام أحمد -رحمه الله-، فعنه رواية: أن تارك الزَّكَاة بُخْلًا وتهاونًا كافر كتاركِ الصَّلاة، ولكن كما قُلْنَا أولًا، وكما نَقُول الآن، وكما سنقوله -إِنْ شَاءَ الله- في المستقبل: مَرَدُّ النزاع إِلَى الكِتاب والسُّنَّة، ودلَّتِ السنَّة عَلَى أن مَن لم يُزَكِّ فليس بكافر، فخرج من الآية. والسنة التي دلت هي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال فيما رواه أبو هُرَيْرَةَ عنه، وهو في صحيح مسلم: (مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ، لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ صُفْحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ، فَأَحْميَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ العِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ، إِمَّا إِلَى الجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ).

فقوله: (إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّه لَيْسَ بكافر كفرًا مُحرِجًا عن الملة؛ لأنَّه لو كانَ كافرًا كفرًا مخرجًا عن الملة لم يكن له سبيل إلى الجنَّة، فحينئذٍ خَرَجَتِ الزَّكَاة من الآية الكريمة بِمُقْتَضَى هَذَا النصّ، والسنَّةُ تُقيّد القُرْآن، وتخصص القُرْآنَ.

وثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله -رَضِي لله عَنْهما- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ) والبينيَّة تَقْتَضِي البينونة بين الشيئين، وإذا كان كذلك فالكفرُ الَّذِي فِي الحَدِيث هُوَ الكفر المخرج عن الملة.

وقال: (العَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ).

بعض العُلَماء ناقشَ في هَذَا الدَّلِيل، وقال: مَن تركها جاحدًا لوجوبها، فنقول: مِنْ أَيْنَ لك هذا؟ هَلْ قالَ الرَّسُول -صلى الله عليه وسلم-: مَن تركها جاحدًا لوجوبها، ولو كانَ هَذَا مُراده لقال: فمَن جَحَدَها لِئَلَّا يُلبّس عَلَى الأُمَّة، والرَّسُول -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَا يمكن أَنْ يُلَبّسَ عَلَى الأُمة، ولا يمكن أنْ يَكُونَ كلامه إلا بيِّنًا واضحًا، فمَن حَمَلَ هَذَا الحَدِيثَ عَلَى أن المُرَاد بِذَلِكَ تَرْكُها جَحْدًا، فَقَدْ أخرجَ الحَدِيثَ عن معناه من وجهين:

الوجه الأوَّل: أَنَّ الرَّسُولَ -صلى الله عليه وسلم- قال: (فَمَنْ تَرَكَهَا) وَهَذَا قَالَ: معناه: فمَن جَحدها، وفرّق بين التّركِ والجَحْد.

الوجه الثَّاني: أنَّه أثبت معنى لا يدلُّ عَلَيْهِ الحَدِيث، وتَرَك المعنَى الَّذِي يدلُّ عَلَيْهِ الحَدِيثُ، وَهَذَا تحريف، أَنْ يُثبت الإِنْسَان معنىً لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ النص، وينفي المعنى الَّذِي دلَّ عَلَيْهِ النصُّ، لكن مَن كانَ متأوّلًا فيُعذر بتأويله، لكن من بان له الأمر، فإنَّه لا يُعذَر بمتابعة المتأول.

ثم نَقُول أيضًا: ما رأيك -يا أخي- لو أن إِنْسَانًا يُصَلِّي الفرائضَ تمامًا، وخَلْفَ الإمام كلّ يومٍ، ويقول: هَذِهِ الصَّلاة تطوُّع، ولَيْسَتْ بفريضةٍ، أيكفر أَمْ لَا يَكْفُر؟

فالمخالف قال: مَن تركها جاحِدًا الوجوب، فَقَدْ جعل الحكم مُرَتَّبًا عَلَى وَصْفَيْنِ، هُما: التّرك والجحد، فنقول له: لو أن إِنْسَانًا صار يُصَلِّي الصلوات كل يوم، وخلف الإمام، ويبكّر ويزداد مِن النَّوَافِلِ، لكن يقول: الصلوات الخمس غيرُ فريضة، وإنما أُصَلِّيها تطوَّعًا، هَلْ ترى أنَّه كافر؟

إن قال: إِنَّهُ كافر ناقض نفسه؛ لأنَّ الحَدِيث يقول: (فَمَنْ تَرَكَهَا) وإن قال: إِنَّهُ غير كافرٍ، فَقَدْ أبطل دليله وقوله أيضًا؛ لأنَّه يقول: مَن أَنكَرَ فَرْضِيَّتها فَهُوَ كافر ولو صلَّى.

فتبيَّن أنَّ حَمْل هَذَا الحَدِيث عَلَى التَّرك المقرون بالجحد لا يستقيم إطلاقًا، لَا مِن جهة النصّ، ولا من جهة المعنى.

إذن البَيْنيَّة تَفْتَضِي المباينة في قوله: (العَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ) وأن هَذَا كافر، وَهَذَا مسلم (فمن ترك الصَّلاة فَقَدْ كَفَر) أي: كُفرًا تحصل به البينونة بيننا وبينه، ولا يكون ذَلِكَ إلا بالكفر الأكبر المخرج عن الملة، وكذلك هَذِهِ الآية: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الروم: ٣١].

كذلك مِن الأَدِلَّة عَلَى كُفر تارِكِ الصَّلاة: إجماعُ الصَّحَابَةِ، فَقَدْ أَجمعوا عَلَى أن من ترك الصَّلاة فَهُوَ كافر، هكذا نَقَلَهُ عبد الله بن شقيق -رَحمَهُ اللهُ- وهو من التابعين المشهورين، قال: كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ لَا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنَ الْأَعْمَالِ تَرْكُهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصَّلاةِ.

ونقل الإمام إسحاق بنُ رَاهَوَيْهِ -رَحِمَهُ اللهُ- إجماع الصَّحَابَة عَلَى ذلك، وإن كانَ بعض العُلَماء ذكر خلافًا عن بعض الصَّحَابَة في أنَّه لا يكفر، لكن عَلَى الأقل نقول: أكثرُ الصَّحَابَة عَلَى أَنَّه كافر.

كذلك مِن الأَدِلَّة: العقل والمعنى الصحيح: هَلْ يُعقل أن شخصًا يُحافظ عَلَى تَرْك الصَّلاة، مَعَ أهميتها، وعناية الله بها، وهو مسلم؟ أبدًا، لَا يُعقل هَذَا إطلاقًا، فأين الإيمان الَّذِي في قلبه وهو لا يُصلي؟! يحافظ عَلَى ترك الصَّلاة لَا يُعقل هذا، إلَّا إذا كَانَ لَا إيمانَ فِي قَلبه إطلاقًا، أو أَنَّه مُنكِر للوجوب.

وعلى هذا، فتكون الأَدِلَّة أربعةً: الكتاب والسنة، وأقوال الصَّحَابَة، ونقول: أقوال الصَّحَابَة بِدُونِ أن ننقل إجماعًا إن ثَبَتَ الخلاف عنهم، والرابع: النظر الصحيح، والعقل.

إذن الحكم بالكفر أو بنفي الكفر يرجع إلى الكتاب والسُّنَّة، ولا يرجع إلينا وإلى أذواقنا، فكما أننا لا نُحرّم شيئًا أحلَّه الله، ولا نُوحِب شيئًا عفا الله عنه، فكذلك أيضًا لا يجوز أن ننفي الكفرَ عمَّن كفّره الله ورسوله، ولا أن تُثبت الكفر لمن لم يُكَفِّره الله ورسوله.

والخلق عباد الله، فإذا كانَ في شرع الله أن مَن تَرَكَ هَذَا الشَّيْء فَهُوَ كافر، فلماذا لا نقول: كافر؟! لماذا نهاب القول بالتكفير الأكبر مَعَ دلالة الكتاب والسُّنَّة؟! فَيَجِبُ ألا نهاب.

ونحن إذا قلنا: إنَّهُ كافر، فسوف يُصلي، لكن إذا قلنا: هَذَا فِسق وليس بكفر، فسوف يبقى عَلَى التهاوُنِ والتّرك، لكن إذا قلنا: أنت الآن خارج عن الإسلام، ولستَ مِن المُسْلِمِينَ في شيء، فسوف يخاف ويصلي، أَمَّا إذا قلنا: والله هَذِهِ كبيرة من الكبائر، ولكنك مؤمن تدخل الجنّة، فسوف يبقى متهاونًا، فلماذا نفتح للنَّاسِ باب التهاونِ، مَعَ أَنَّ هَذَا الباب مُغْلَق مِن حيثُ القُرْآن والسُّنة، وأقوال الصَّحَابَة -رَضي اللَّهُ عَنْهُم- والنظر الصحيح!

نحن قُلْنَا: هَذَا بين أيديكم الآن فِي مَسْجِد النَّبِي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لأَنَّ مِن النَّاسِ مَن يُلبس ويقول: هَذَا لَيْسَ بكفِرِ، وَهَذَا فِسق، وَهَذَا انفرد به الإمام أحمد -رحمه الله-، وَهَذَا محمول عَلَى مَن تركها جاحدًا، ومَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِن الكلام الَّذِي قاله مَن سَبق، والعُلَماء مختلفون في هَذَا قديمًا وحديثًا، فليست المسألة وليدة عهدها، بل هي من قديم.

ولكن الواجب علينا أن نقول ما قال الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وألا نَتَهَيَّبَ، وألا نستعظم الأمر.

أليس الساجد لعمود من الأعمدة ولو كان يصلي كافرًا، ولو قال: إن السُّجُود شرك، ولو قال: إن الصَّلاة فرضٌ وسَجَد، فَإِنَّهُ يكون كافرًا، فلماذا نَتَهَيَّبُ أن نَقُول لمن لَا يُصلي: إِنَّهُ كافر؟!

يقول بعض النَّاس: إذا قلتَ: إِنَّهُ كافر، بقي كثير من المُسْلِمِينَ اليوم ليسوا مُسْلِمِينَ، وأوردَ هَذِهِ الشبهة لأنَّ كثيرًا من النَّاس لا يصلي.

فنقول: لكننا إذا قلنا: إِنَّهُ كافر فسوف يرجع كثير من هَؤُلاءِ إِلَى الصَّلاة.

وما مِثل قوله هَذَا إِلَّا كمثل قول مَن يقول: إذا قطعنا يد السارق، أصبح نصف الشعب أشلَّ! يعني: ليس فيه إِلَّا يَدٌ واحدة، وَهَذَا كلام الملبس -والعِيَاذُ باللهِ- يَلْبِسُون الحق بالباطل، فنقول: الحمد لله، أنت الآن أقررتَ عَلَى نفسك أن نصف شعبك سُرَّاق؛ لأنه يقول: إذا قطعنا يد السارق أصبح نصف الشعب أشلَّ.

لكن نَقُول له: أخطأت في فَهمك لو أننا قطعنا يد سارق لانتهى عن السرقة آلاف السُّرَّاق، ولم يسرقوا؛ ولهذا انظر إلى القصاص، فإذا قتل الإِنْسَان شخصًا عمدًا، ثمَّ قتلنا القاتل، فَهَلْ هَذَا معناه: أننا زدنا القتلى أو لا؟

الجَوَاب: لا، بل في هَذَا حياة، قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ [البقرة: ١٧٩] سُبْحَانَ اللهِ! ففي القِصاص نقتل واحدًا زائد واحد، فيكون العدد اثنين، فمعناه أنا زدنا القتلى، لكن رب العالمين يقول: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ لأننا إذا قتلنا هَذَا القاتل، فسينتهي عن القتل آلاف المجرمين الَّذِينَ يحاولون الاقتراب من القتل، فكل إِنْسَان عندما يعرف أنه إذا قتل فسوف ينتهي عن القتل؛ ولهذا قال الله -عز وجل-: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾.

إذن نَحْنُ إذا قلنا: إن تارك الصَّلاة كافر، فوالله ما أسأنا إِلَى النَّاسِ، بل أحسنا إليهم؛ لأنَّ مَن لَا يُصَلِّي سوف يصلي؛ خوفًا مِن أَنْ يخرجَ من ربقة الإسلام. وقد يرد علينا حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-: (خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ الله عَلَى العِبَادِ، فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيَّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ، كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الجَنَّة).

فنقول: لا يخالف فهَذَا الحَدِيث في بعض ألفاظه وسياقاته: (وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ وَخُشُوعَهُنَّ) فنقول: إذا أتى بهنَّ مُتِمًّا لذلك، وأما إذا أتى بهنَّ ناقصًا فَهُوَ لَا يَكفر؛ لأنه أتى بهنَّ لكنها ناقصة.

ونحن نقول بالإجمال: الأَدِلَّة التي استدلَّ بها منكرو تكفير تارك الصلاة، نُجيب عنها بجوابين: أحدهما مُجمَل، والثاني مفصل.

أما المجمل فنقول: إنَّ جميع الأحاديث التي ذكروها إِمَّا أَنَّهَا أدلَّة فيها اشتباه، في مقابل أَدِلَّة واضحة بيِّنة، ولدينا قاعدة مُهمة يَجِب عَلَى طلبة العِلْمِ أَنْ يَعْتَنُوا بها، وَأَنْ يَسيروا عليها: إذا وردت النصوص بعضُها مُحكم بيِّن، وبعضها متشابه، فَالوَاجِبُ إلغاء المتشابه، والأخذ بالمحكم؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ مِنْهُ آيَاتُ مُحكَمَات هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأَخَرُ مُتَشَابِهَات فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْعٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: ٧] يعني: وأما الراسخون في العلم فيأخذون بالمحكم، وَهَكَذَا العقل يَدُلُّ عَلَى هذا؛ لأَنَّ المتشابه متشابه ومُحْتَمِل لِأَوْجُهِ، والمحكم واضح بيِّن، وأدلة كُفر تارك الصلاة واضحة بينة، كما ذكرنا، والأَدِلَّة الأُخْرَى مُتَشَابِهَة، فَيَجِبُ ردُّها إلى المحكم.

ثانيًا: إن الأَدِلَّة الَّتِي استُدِلَّ بها إما أَلَّا يكون فيها دليل أصلًا، وإما أَنْ تَكُونَ مقيّدة بوصف لا يمكن معه تركُ الصَّلاة، مثل حديث عِتْبَانَ بن مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: (إِنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ) فَهَذَا الحديث مقيَّد: (مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ) وأنا أسأل: هَلْ يمكن لإِنْسَان يقول: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يبتغي بِذَلِكَ وجه الله، أَنْ يَدَعِ الصَّلاة؟!

نقول: لا يمكن، فَيَجِبُ أَنْ نَكُونَ عند الواقع، نقول: إذا كنتَ تبتغي بِهَذِهِ الكلمة وَجْه اللهِ، فالصَّلاة أعظمُ ما يتوصل به الإِنْسَانِ إِلَى وجه الله، ولا يمكن أَنْ يتركها.

أو تكون الأَدِلَّة الَّتِي استدل بها هَؤُلاءِ عامَّة تُخَصَّص بأحاديث تركِ الصَّلاة، وتخصيص العام بالخاص أمر مُتَبَع عند جميع العُلَماء.

وأنا قد تتبعتُ هذا، وبيَّنت هَذَا في رسالة صغيرة، اسمها (حكم تارك الصَّلاة) فمَن أَرَادَ الاستزادة فليرجع إليها، والله تَعَالَى يعلم أننا ما أردنا إِلَّا الإحسان إلى الخلق، وعدم التهاون في الصَّلاة، وما قصدنا أن نُخرج النَّاسِ مِن دينهم، لا والله، بل نَحْنُ أَشدُّ النَّاس تنفيرًا مِن التعجل والتسرع في الحكم بالتكفير؛ لأنَّ الحكم بالتكفير معناه نَقل الإِنْسَان مِن دِينِ إِلَى دِينِ، بل مِن دِين إِلَى لَا شيء، ولا يمكن أن يتسرع الإِنْسَان المؤمن في الحكم عَلَى النَّاس بالكفر بِدُونِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ دليل ثابت واضح.

المصدر:

[دروس وفتاوى من الحرمين الشريفين للشيخ ابن عثيمين (13/44-54)].


هل انتفعت بهذه الإجابة؟