الجواب
أولاً: أنزل الله كتابه، وأرسل رسوله محمداً -صلى الله عليه وسلم-؛ ليهدي الناس إلى الصراط المستقيم، في عقائدهم وعبادتهم ربهم سبحانه، وليبين لهم أحكام ما يدور بينهم من معاملات تنظم بها أمور دينهم ودنياهم، بيانا شافيا، وقد أتم الله نعمته بذلك على عباده، وأكمل لهم دينهم الذي ارتضاه لهم، قال الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾[المائدة: 3]
ثانياً: أمر الله تعالى أن يتدبروا آياته الكونية، وأن يتبصروا في عجائب مخلوقاته؛ ليقفوا على أسرارها، وليتعرفوا من خلال ذلك على بارئها؛ فيؤمنوا به وتخبت له قلوبهم، ويقدروه حق قدره ﴿وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾[إبراهيم: 52]، فيعبدوه وحده لا شريك له مخلصين له الدين، رجاء ثوابه وخوف عقابه، وليستيقنوا أنه لم يخلقهم عبثا، ولن يتركهم سدى، فإن مقتضى حكمته أن يعيدهم ليوم الجزاء؛ ليوفي كل نفس ما كسبت، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾[الزلزلة: 7-8] ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ﴾[العنكبوت: 19-21]. فهذه الآيات سيقت للاستدلال بما ذكر فيها من توحيد الربوبية على إثبات ما سبقها من الخبر عن توحيد الإلهية، الذي دعا إليه كل من نوح وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام قومه، وللاستدلال بما ذكر فيها من كمال قدرة الله على بدء الخلق، على أن يعيدهم للحساب والجزاء، فأمرهم أن ينظروا في الخلق نظر تدبر واعتبار، وأن يسيروا في الأرض ليعرفوا الدلائل الكونية على توحيد الله في ألوهيته، وكمال أسمائه وصفاته، وقدرته على البعث يوم القيامة، ولينظروا كيف كانت عاقبة من آمن ومن كفر، من نصر ونجاة للمؤمنين، ودمار وهلاك للكافرين؛ فيسلكوا سبيل الحق الذي دعا إليه المرسلون، ويهتدوا بهداهم، ويجتنبوا طريق من كذب رسله، فأنزل بهم بأسه، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون، فبالتبصر في هذه الآيات، والاعتبار بها، والإيمان بما دلت عليه من عقائد وأحكام، وما يتبع ذلك من عواقب؛ يرفع الله بها الذين آمنوا والذين أوتوا هذا العلم عنده درجات، نصرا وعزة في الدنيا، وفوزا وسعادة يوم القيامة.
ومن هذا يتبين أن القصد من هذه الآيات: إثبات أصول دينية، هي توحيد الإلهية وبعث العباد يوم القيامة للجزاء، وصدق النبي-صلى الله عليه وسلم- في دعواه الرسالة، وفي دعوته الناس إلى التوحيد والبعث للجزاء، وقد دل على ذلك ما سبقها وما لحقها من الآيات، ولم يقصد بها وضع قواعد للصناعة والزراعة، يتعرف الناس منها شؤون دنياهم، أو نظريات هندسية، أو شرح لسننه الكونية، ليتعرف الناس منها علوم الهندسة والفيزياء، وطبقات الأرض، ويصلوا بذلك إلى ما ينهض بهم في دنياهم من مخترعات، إنما وصل إلى ذلك من وصل بتوفيق الله، ثم بما وهب الله له من فكر ثاقب، ودراسة محكمة لما سخر الله لهم من ملكوت السموات والأرض وما بينهما، وما أودع الله في ذلك من سنن كونية، فالأصل في كتاب الله تعالى وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-التشريع الديني تقعيدا وتفصيلا، لا التقعيد والتفصيل للعلوم الكونية، وما جاء فيهما من ذلك فهو قليل وغير مقصود بالمقصد الأول، بل بالتبع، كالأخبار التي وردت في مسائل من الطب ونحوه، وهي جزئيات محدودة، لا قواعد كلية يرجع إليها في تشخيص الأمراض، أو يعتمد عليها في جميع أنواع العلاج، أو يتعرف منها خواص جميع الخامات، وما يكون منها علاجاً للأنواع المختلفة من الأمراض.
وكذا القول في آية ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾[الأعراف: 185]، فإنها حث للمكذبين على النظر في ملكوت السموات والأرض، وفي عجائب جميع ما خلق الله؛ ليستدلوا بذلك على ما سبق التصريح به، من توحيد العبادة، وإفراده تعالى بالدعاء، وتسميته تعالى بما سمى ووصف به نفسه، من كمال الأسماء والصفات، ولا يلحدوا فيها كما ألحد غيرهم؛ بإنكارها وجحدها، أو تحريفها عن مواضعها، أو تسميته تعالى ووصفه بغير ما سمى ووصف به نفسه، أو تسمية غيره ووصفه بما سمى ووصف به سبحانه نفسه، لئلا يصيبهم بأس الله وعقابه بما كانوا يفترون، من الإلحاد في أسمائه وصفاته، وأن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وليحذروا أن يغتروا بإملائه، فإنه سبحانه يملي إعذارا واستدراجاً، ولكنه لا يهمل، قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾[الأعراف: 180-183]،ثم نوه بشأن نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-ورجاحة عقله وصدقه في رسالته ونذارته، فقال سبحانه: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾[الأعراف: 184]، ثم أمرهم بالنظر في ملكوت السموات والأرض. فالآية مع ما قبلها سيقت لإثبات التوحيد بأنواعه، وإثبات رسالة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وصدقه فيما جاء به من الله، وإثبات الجزاء عاجلاً أو آجلاً يوم القيامة، كالآيات الأولى التي من سورة العنكبوت، ولم تنزل لوضع تقعيد أو نظريات للعلوم الكونية، يرجع إليها من يريد أن يتعلم تفاصيل هذه العلوم، إلى آخر ما تقدم إيضاحه في الآيات السابقة.
ولا يبعد مغزى آية: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾[فصلت: 53] عن مغزى ما تقدم من آيات سورة الأعراف وسورة العنكبوت، من إثبات التوحيد وصدق النبي -صلى الله عليه وسلم-في الرسالة، وإثبات البعث يوم القيامة، بل سورة (فصلت) نزلت كلها لإثبات ذلك وبيانه.
وأما قوله تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾[الطارق: 5-7]، فإنه سيق للاستدلال ببدء خلق الإنسان، على قدرة الله على إعادته، فإن من قدر على البدء فهو على الإعادة أقدر، على ما هو الحال في النظر، وإن كان الكل بالنسبة لقدرة الله سواء، قال الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[الروم: 27]، بل سورة الطارق كلها في إثبات البعث وتهديد المكذبين.
وأما حديث التداوي فالقصد منه الأمر بالتداوي، والتنبيه على الأخذ بالأسباب، وعدم الإعراض عنها، وبيان أن ذلك لا ينافي التوحيد؛ إذا كان المتداوي لا يعتمد على الأسباب ويجعلها الأصل في الشفاء، بل يوقن بأن الشفاء من الله، وأنه هو الذي جعل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء كما ثبت ذلك في الحديث، ولم يفصل النبي -صلى الله عليه وسلم-أنواع الأدوية والأدواء، ولم يبين لكل داء ما يخصه من الأدوية، إلا في جزئيات قليلة، ولم يضع للطب قاعدة يتعرف منها من يريد تعلم الطب، وخواص الأدوية، وأعراض الأمراض، ولكن حثهم على النظر وتعلم ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وسخر الله لهم الكون، وأعطاهم العقل؛ ليتبصروا في ذلك، ووفق منهم من شاء لما شاء من إدراك أسرار الكون وعجائبه، وما فيه من الخواص والمنافع والمضار.
فعلى المسلمين أن يتبصروا في كتاب الله تعالى، وفي سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-؛ ليعلموا كمال الشريعة، ومقاصدها، وتفاصيلها، كل ذلك بقدر ما آتاه الله من عقل واستعداد، وما هيأ الله له من صحة وفراغ، كما أن عليهم أن يدرسوا أيضا سنن الله الكونية في السموات والأرض، ليعلموا ما أودع الله فيها من أسرار، وليستنبطوا منها ما شاء الله مما هم في حاجة إليه: من علوم الطب والزراعة والصناعة والفيزياء وطبقات الأرض، وغيرها من العلوم الكونية؛ ليستفيدوا منها في دنياهم، ويستعينوا بها في شؤون دينهم، ويستغنوا بها عمن سواهم من الكافرين؛ وبذلك يجمعون بين القوة والعزة في الدنيا، والنجاة والسعادة في الآخرة، ويصلحون للخلافة في الأرض، وعمارتها دينا ودنيا.
وعلى ولاة أمور المسلمين من علماء وحكام، أن ينهضوا بالأمة الإسلامية، وأن يرعوها حق الرعاية، ويأخذوا بأيديها إلى ما فيه الخير والصلاح، علما وعملا، ويوزعوا جهودها على جميع جوانب الحياة، دراسة وإنتاجا، لشتى العلوم والأعمال، دينية ودنيوية، ليوجدوا الأكفاء الذين يقومون بمصالحها، ويتضلعون بأعبائها، ويتحملون مسئولياتها، وتستغني بهم عمن سواها من الدول علماً وعملاً.
ومن هذا يتبين أن كل علم ديني مع وسائله التي تعين على إدراكه، داخل فيما يرفع الله - من علمه وعمل به، مخلصا له - عنده درجات، وأنه مقصود بالقصد الأول. وكل علم دنيوي تحتاجه الأمة، وتتوقف عليه حياتها، كالطب والزراعة والصناعة ونحوها، داخل أيضا إذا حسنت النية، وأراد به متعلمه والعامل به نفع الأمة الإسلامية ودعمها، ورفع شأنها، وإغنائها عن دول الكفر والضلال، لكن بالقصد الثاني التابع، ودرجات كل متفاوتة تبعا لمنزلة ذلك من الدين، وقوته في النفع ودفع الحاجة، والله سبحانه هو الذي يقدر الأمور قدرها، وينزلها منازلها، وهو الذي يعلم السر وما هو أخفى، وإليه الجزاء ورفع الدرجات في الدنيا والآخرة، وهو الحكيم العليم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.