الجواب
هذه المسألة مسألة عظيمة وخطيرة، يقع فيها بعض الناس، بأن يكونوا يصومون، ويحجون، ويعتمرون، ويتصدقون، ولكنهم لا يصلون: فهل أعمالهم الصالحة هذه مقبولة عند الله عز وجل أم مردودة؟ هذا ينبني على الخلاف في تكفير تارك الصلاة، فمن قال: إنه لا يكفر. قال: إن هذه الإعمال مقبولة. ومن قال: إنه يكفر. قال: إن هذه الأعمال غير مقبولة. ومرجع خلاف العلماء ونزاعهم إلى كتاب الله تعالى وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لقوله تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾[الشورى: 10]، وقوله: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾[النساء: 59].
ونحن إذا رددنا نزاع العلماء في هذه المسألة إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وجدنا أن كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - يدلان على أن تارك الصلاة كافر، وأن كفره أكبر مخرج عن الملة، فمن ذلك قوله تعالى في المشركين: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾[التوبة: 5] ، فإن هذه الجملة الشرطية تدل على أنه لا تتم الإخوة لهؤلاء إلا بهذه الأمور الثلاثة: التوبة من الشرك، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. وإذا كانت هذه الجملة الشرطية فإن مفهومها أنه إذا تخلف واحد منها لم تثبت الأخوة الدينية بيننا وبينهم، ولا تنتفي الأخوة الدينية بين المؤمن وغيره إلا بانتفاء الدين كله، ولا تنتفي بالمعاصي وأن عظمت، لأن أعظم المعاصي قتل المؤمن، وقال الله تعالى فيه: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾[النساء: 93]، فمع ذلك قال الله تعالى في آية القصاص: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾[البقرة: 178]، فجعل الله تعالى القتيل أخاً للقاتل، مع أن القاتل قتله وهو مؤمن، وقتل المؤمن من أعظم كبائر الذنوب بعد الشرك، وهذا دليل على أن المعاصي وإن عظمت لا تنتفي بها الأخوة الدينية. أما الكفر فتنتفي به الأخوة الدينية، فإن قلت: هل تقول بكفر من منع الزكاة بخلاً؟ قلت: لولا الدليل لقلت به، بناء على هذه الآية، ولكن هناك دليل رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه - في مانع الزكاة حيثما ذكر عقابه، ثم قال بعد ذلك: «ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار»وكونه يرى سبيله إلى الجنة دليل على أنه لم يخرج من الإيمان، وإلا ما كان له طريق إلى الجنة. وأما من السنة فمثل قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه جابر- رضي الله عنه - : «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة»أخرجه مسلم في صحيحه، وقوله - صلى الله عليه وسلم – فيما رواه بريدة وأخرجه أهل السنن: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر»هذا هو الكفر المخرج عن الملة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل بين إسلام هذا الرجل وكفره فاصلاً وهو ترك الصلاة، والحد الفاصل يمنع من دخول المحدودين بعضهما ببعض، فهو إذا خرج من هذا دخل في هذا، ولم يكن له حظ من الذي خرج منه، وهو دليل واضح على أن المراد بالكفر هنا الكفر المخرج عن الملة، وليس هذا مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - : «اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت» لأنه قال: (هما بهم كفر) أي أن هذين العملين من أعمال الكفر، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام في: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» فجعل الكفر منكراً عائداً على القتال، أي أن القتال كفر بالأخوة الإيمانية ومن أعمال الكافرين، لأنهم هم الذين يقتلون المؤمنين، وقد جاء في الآثار عن الصحابة- رضي الله عنهم- كفر تارك الصلاة. فقال عبد الله بن شقيق وهو من التابعين الثقاة: (كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة ) ونقل إجماع الصحابة على أن تارك الصلاة كافر كفرًا مخرجًا عن الملة. إسحاق بن راهويه الإمام المشهور، والمعنى يقتضي ذلك فإن كل إنسان في قلبه إيمان يعلم ما للصلاة من أهمية، وما فيها من ثواب، وما في تركها من عقاب، من يعلم ذلك لا يمكن أن يدعها، خصوصاً إذا كان قد بلغه أن تركها كفر بمقتضى دلالة الكتاب والسنة، فإنه لا يمكن أن يدعها ليكون من الكافرين، وبهذا علمنا أن دلالة الكتاب والسنة، وآثار الصحابة، والاعتبار الصحيح كلها تدل على أن من ترك الصلاة فهو كافر كفرًا مخرجًا عن الملة. وقد تأملت ذلك كثيراً، ورجعت ما أمكن مراجعة من كتب في هذه المسألة، وبحثت مع من شاء الله ممن تكلمت معه في هذا الأمر، ويتبين لي أن القول الراجح أن تارك الصلاة كافر كفرًا مخرجّاً عن الملة. وتأملت الأدلة التي استدل بها من يرون أنه ليس بكافر، فرأيتها لا تخلو من أربع حالات: إما أن لا يكون فيها دليل أصلاً، وإما أن تكون مقيدة بوصف يمتنع معه ترك الصلاة، أو مقيدة بحال يعذر فيها من ترك الصلاة، لكون معالم الدين قد اندثرت، وإما لأنها عامة مخصصة بأحاديث أو بنصوص كفر تارك الصلاة، ومن المعلوم عند أهل العلم أن النصوص العامة تخصص بالنصوص الخاصة، ولا يخفى ذلك على طالب علم، وبناء على ذلك فإنني أوجه التحذير لإخواني المسلمين من التهاون بالصلاة وعدم القيام بما يجب فيها، وبناء على هذا القول الصحيح الراجح، وهو أن تارك الصلاة كافر كفرًا مخرجاً عن الملة، فإن ما يعمله تارك الصلاة من صدقة، وصيام، وحج لا يكون مقبولاً منه، لأن من شرط قبول الأعمال الصالحة أن يكون العامل مسلماً، وقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ﴾[التوبة: 54]، فدل ذلك على أن الكفر مانع من قبول الصدقة، مع أن الصدقة عمل نافع متعدي النفع للغير، فالعمل القاصر من باب
أولى أن لا يكون مقبولاً، وحينئذ الطريق إلى قبول أعمالهم الصالحة أن يتوبوا إلى الله عز وجل مما حصل منهم من ترك الصلاة، وإذا تابوا لا يطالبون بقضاء ما تركوا بل يكثرون من الأعمال الصالحة، ومن تاب تاب الله عليه، كما قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا﴾[الفرقان: 68 - 71] أسال الله أن يهدينا جميعا الصراط المستقيم، وأن يمن علينا بالتوبة النصوح التي يمحو بها ما قد سلف من ذنوبنا، إنه جواد كريم.