الجواب
من الضروريات الخمس التي دلت نصوص الكتاب والسنة دلالة قاطعة على وجوب المحافظة عليها، وأجمعت الأمة على لزوم مراعاتها - حفظ نفس الإنسان، وهو في المرتبة الثانية بعد حفظ الدين، سواء كانت النفس حملا قد نفخ فيه الروح، أم كانت مولودة، وسواء كانت سليمة من الآفات والأعراض وما يشوهها أم كانت مصابة بشيء من ذلك، وسواء رجي شفاؤها مما بها أم لم يرج ذلك، حسب الأسباب العادية وما أجري من تجارب، فلا يجوز الاعتداء عليها بإجهاض إن كانت حملا قد نفخ فيه الروح، أو بإعطائها أدوية تقضي على حياتها وتجهز عليها طلبا لراحتها أو راحة من يعولها أو تخليصا للمجتمع من أرباب الآفات والعاهات والمشوهين والعاطلين، أو غير ذلك مما يدفع بالناس إلى التخلص، لعموم قوله تعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾[الأنعام: 151]ولما ثبت من بيان النبي -صلى الله عليه وسلم- وتوكيده من قوله: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة» رواه البخاري ومسلم، وأن يحتسبوا في ذلك، ولا يملوا من كثرة تردد المريض ولا تضيق صدورهم من طول أمد العلاج، ولا ييأسوا من حسن العواقب، فإن الأمور بيد الله يصرفها كيف يشاء، ولا يمنعهم من ذلك استحكام الداء واستغلاق العلاج، وتوقع الموت والهلاك، فكم من مريض استعصى داؤه واستفحل أمره فوهب الله له الشفاء، وكم من مريض شخص داؤه وعرف دواؤه وأمل فيه الشفاء، فوافته منيته رغم عناية معالجيه، ولا تحملنهم المهارة في الطب وكثرة تجاربهم فيه على أن يجعلوا من ظنونهم حسب ما لديهم من أسباب قطعا، وأن يجعلوا من توقعاتهم واقعا، فكم من ظنون كذبت، ومن توقعات أخطأت، وليعلموا أنا وإن أمرنا بالأخذ بالأسباب فالشفاء من الله وحده مسبب الأسباب، وعلم الآجال إليه وحده، لا يعلمها إلا هو، وعلى ولي الأمر العام أن يهيئ وسائل العلاج من أطباء وأجهزة ومستشفيات ونحو ذلك، فالجميع راع ومسؤول عن رعيته، كل في حقله وميدانه بقدر ما آتاه الله من طاقة علمية، أو مادية أو عملية، كما أرشدنا إلى ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعليهم جميعاً أن يحسنوا فإن الله كتب الإحسان على كل شيء، وهو سبحانه يحب المحسنين.
فليس لهم أن يتعلقوا في ترك العلاج والإهمال فيه والإعراض عن الأخذ بأسباب الشفاء، بما ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «"عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع إلي سواد عظيم، فقلت: إنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب" ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم: لعلهم الذين صحبوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئا، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأخبروه، فقال: "هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون " فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: "أنت منهم " فقام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: "سبقك بها عكاشة» رواه البخاري ومسلم واللفظ له، والنسائي والترمذي ولما بين الفريقين من الفرق البين، فإن السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب قد تركوا أسبابا مادية، قد كرهها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأسبابا معنوية قد يكون في جنسها شوائب شرك إلى أسباب روحية، هي: التوكل على الله ودعاؤه سبحانه تضرعا وخفية، وللأسباب المعنوية من التأثير بإذن الله في أنواع من الأمراض والبرء منها ما ليس للأسباب المادية، فهم لم يتركوا الأخذ بالأسباب مطلقا، وإنما اختاروا منها نوعاً طابت به نفوسهم، وآثروه على غيره، مع إخلاص وصدق في التوكل على الله، وصبر على البلاء، ولم يستسلموا للأمراض يائسين من الشفاء، ولم يذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهم تركوا جميع الأسباب المادية المتاحة، وقد ثبت في الحديث: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» بخلاف من سئل عنه من الحمل والأطفال ذوي الآفات والأمراض المستعصية، فإن أحوالهم ومقاصد من يليهم من الآباء والأمهات ونحوهم تختلف عن حال أولئك ومقاصدهم، من جهة الإعراض عن الأسباب مطلقا - مادية ومعنوية - لليأس من الشفاء، ومن جهة القصد إلى الراحة من المريض وإراحته لضيق الصدر من القيام عليه والسآمة من طول علاجه مع اليأس من الوصول إلى نتيجة، لا للتوكل على الله والصبر على البلاء، والأمل في الشفاء من الله سبحانه وتعالى، ولأن في وجود المتخلفين عقليا والمعوقين وذوي الأمراض المزمنة من خير للعباد وذكرى وموعظة ودلالة على عظيم حكمة الله سبحانه وقدرته على ما يشاء، وعظم نعمته على من سلم من هذه الأمراض، فيشكره سبحانه ويلتزم طاعته.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.