الجمعة 01 ربيع الآخر 1446 هـ

تاريخ النشر : 24-03-2020

حكم الطواف بالقبور ودعاء أصحابها والنذر لهم

الجواب
هذا السؤال سؤال عظيم، وجوابه يحتاج إلى بسط بعون الله -عز وجل- فنقول: إن أصحاب القبور ينقسمون إلى قسمين:
القسم الأول: قسم تُوفي على الإسلام ويُثني الناس عليه خيرًا فهذا يُرجى له الخير، ولكنه مفتقر إلى إخوانه المسلمين يدعون الله له بالمغفرة والرحمة وهو داخل في عموم قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[الحشر: 10] وهو بنفسه لا ينفع أحدًا إذ إنه ميت جثة لا يستطيع أن يدفع عن نفسه الضر ولا عن غيره، ولا أن يجلب لنفسه النفع ولا لغيره فهو محتاج إلى نفع إخوانه غير نافع لهم.
القسم الثاني من أصحاب القبور: من أفعاله تؤدي إلى فسقه الفسق المخرج من الملة كأولئك الذين يدعون أنهم أولياء، ويعلمون الغيب ويشفون من المرض، ويجلبون الخير والنفع بأسباب غير معلومة حسًّا ولا شرعًا، فهؤلاء الذين ماتوا على الكفر، لا يجوز الدعاء لهم ولا الترحم عليهم؛ لقول الله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾[التوبة: 113- 114]وهم لا ينفعون أحدًا ولا يضرونه ولا يجوز لأحد أن يتعلق بهم، وإن قُدر أن أحدًا رأى كرامات لهم مثل أن يتراءى له أن في قبورهم نورًا، أو أنه يخرج منها رائحة طيبة أو ما أشبه ذلك وهم معروفون بأنهم ماتوا على الكفر فإن هذا من خداع إبليس وغروره ليفتن هؤلاء بأصحاب هذه القبور.
وإنني أحذر إخواني المسلمين من أن يتعلقوا بأحد سوى الله -عز وجل- ، فإنه -سبحانه وتعالى- هو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله، ولا يجيب دعوة المضطر إلا الله، ولا يكشف السوء إلا الله، قال تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾[النحل: 53]. ونصيحتي لهم أيضًا أن لا يقلدوا في دينهم ولا يتبعوا أحدًا إلا رسول الله-صلى الله عليه وسلم-؛ لقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾[الأحزاب: 21] ولقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾[آل عمران: 31].
ويجب على جميع المسلمين أن يَزِنُوا أعمال من يدعي الولاية بما جاء في الكتاب والسنة فإن وافق الكتاب والسنة فإنه يرجى أن يكون من أولياء الله، وإن خالف الكتاب والسنة فليس من أولياء الله، وقد ذكر الله في كتابه ميزانًا قسطًا عدلًا في معرفة أولياء الله حيث قال: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾[يونس: 62- 63]. فمن كان مؤمنًا تقيًّا كان لله وليًّا، ومن لم يكن كذلك فليس بولي لله، وإن كان معه بعض الإيمان والتقوى كان فيه شيء من الولاية، ومع ذلك فإننا لا نجزم لشخص بعينه بشيء ولكننا نقول على سبيل العموم: كل من كان مؤمنًا تقيًّا كان لله وليًّا.
وليعلم أن الله -عز وجل- قد يفتن الإنسان بشيء من مثل هذه الأمور، فقد يتعلق الإنسان بالقبر فيدعو صاحبه أو يأخذ من ترابه يتبرك به فيحصل مطلوبه، ويكون ذلك فتنة من الله عز وجل؛ لهذا الرجل لأننا نعلم أن هذا القبر لا يجيب الدعاء، وأن هذا التراب لا يكون سببًا لزوال ضرر أو جلب نفع نعلم ذلك لقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾[الاحقاف: 5، 6]. وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾[النحل: 20- 21] والآيات في هذا المعنى كثيرة تدل على أن كل من دعي من دون الله فلن يستجيب الدعاء ولن ينفع الداعي، ولكن قد يحصل المطلوب المدعو به عند دعاء غير الله فتنة وامتحانًا ونقول: إنه حصل هذا الشيء عند الدعاء -أي عند دعاء هذا الذي دعي من دون الله- لا بدعائه وفرق بين حصول الشيء بالشيء، وبين حصول الشيء عند الشيء، فإننا نعلم علم اليقين أن دعاء غير الله ليس سببًا لجلب النفع أو دفع الضرر بالآيات الكثيرة التي ذكرها الله -عز وجل- في كتابه، ولكن قد يحصل الشيء عند هذا الدعاء فتنة وامتحانًا، والله تعالى قد يبتلي الإنسان بأسباب المعصية؛ ليعلم -سبحانه وتعالى- من كان عبدًا لله ومن كان عبدًا لهواه، ألا ترى إلى أصحاب السبت من اليهود حيث حرم الله عليهم أن يصطادوا الحيتان في يوم السبت فابتلاهم الله -عز وجل- فكانت الحيتان تأتي يوم السبت بكثرة عظيمة وفي غير يوم السبت تختفي فطال عليهم الأمد، وقالوا: كيف نحرم أنفسنا هذه الحيتان ثم فكروا وقدروا ونظروا فقالوا: نجعل شبكة ونضعها يوم الجمعة ونأخذ الحيتان منها يوم الأحد، فأقدموا على هذا الفعل الذي هو حيلة على محارم الله فقلبهم الله قردة خاسئين قال الله تعالى: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾[الأعراف: 163] وقال -عز وجل-: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾[البقرة: 65] فانظر كيف يسر الله لهم هذه الحيتان في اليوم الذي منعوا من صيدها فيه ولكنهم -والعياذ بالله- لم يصبروا فقاموا بهذه الحيلة على محارم الله.
ثم انظر إلى ما حصل لأصحاب النبي-صلى الله عليه وسلم- ، حيث ابتلاهم الله تعالى وهم محرمون بالصُّيود المحرمة على المحرم فكانت في متناول أيديهم ولكنهم -رضي الله عنهم- لم يجرءوا على شيء منها قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[المائدة: 94] كانت الصيود في متناول أيديهم يمسكون الصيد العادي باليد وينالون الصيد الطائر بالرماح فيسهل عليهم جدا، ولكنهم -رضي الله عنهم- خافوا الله -عز وجل- فلم يقدموا على أخذ شيء من الصيود.
وهكذا يجب على المرء إذا هيئت له أسباب الفعل المحرم أن يتقي الله عز وجل، وأن لا يقدم على فعل هذا المحرم، وأن يعلم أن تيسير أسبابه من باب الابتلاء والامتحان فليحجم وليصبر فإن العاقبة للمتقين.
المصدر:
مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين(2/227-231)

هل انتفعت بهذه الإجابة؟