الجواب
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصبحه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين ، أما بعد:
فاعلم وفقك الله أن الله سبحانه إنما خلق الخلق وأرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام ، ليعبد وحده لا شريك له دون ما سواه كما قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾[ الذاريات: 56]والعبادة هي: طاعته سبحانه وطاعة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - بفعل ما أمر الله به ورسوله وترك ما نهى الله عنه ورسوله . عن إيمان بالله ورسوله وإخلاص لله في العمل كما قال تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ﴾[الإسراء:23] أي أمر وأوصى بأن يعبد وحده وقال تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾[الفاتحة: 1- 5]أبان الله سبحانه بهذه الآيات أنه هو المستحق لأن يعبد وحده ويستعان به وحده ، وقال عز وجل: ﴿ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ﴾[الزمر: 2- 3] وقال سبحانه: ﴿ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾[غافر: 14]وقال تعالى: ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾[الجن: 18]والآيات في هذه المعنى كثيرة وكلها تدل على وجوب إفراد الله بالعبادة ، ومعلوم أن الدعاء بأنواعه من العبادة ، فلا يجوز لأحد من الناس أن يدعو إلا ربه ولا يستعين ولا يستغيث إلا به ؛ عملا بهذه الآيات الكريمات وما جاء في معناها . وهذا فيما عدا الأمور العادية والأسباب الحسية التي يقدر عليها المخلوق الحي الحاضر فإن تلك ليست من العبادة ، بل يجوز بالنص والإجماع أن يستعين الإنسان بالإنسان الحي القادر في الأمور العادية التي يقدر عليها . كأن يستعين به أو يستغيث به . في دفع شر ولده أو خادمه أو كلبه وما أشبه ذلك ، وكأن يستعين الإنسان بالإنسان الحي الحاضر القادر أو الغائب بواسطة الأسباب الحسية كالمكاتبة ونحوها في بناء بيته أو إصلاح سيارته أو ما أشبه ذلك ، ومن هذا الباب قول الله عز وجل في قصة موسى عليه الصلاة والسلام: ﴿ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ﴾[القصص: 15] ومن ذلك استغاثة الإنسان بأصحابه في الجهاد والحرب ونحو ذلك . فأما الاستغاثة بالأموات والجن والملائكة والأشجار والأحجار فذلك من الشرك الأكبر وهو من جنس عمل المشركين الأولين مع آلهتم كالعزى واللات وغيرهما ، وهكذا الاستغاثة والاستعانة بمن يعتقد فيهم الولاية من الأحياء فيما لا يقدر عليه إلا الله ، كشفاء المرضى وهداية القلوب ودخول الجنة والنجاة من النار وأشباه ذلك ، والآيات السابقات وما جاء في معناها من الآيات والأحاديث كلها تدل على وجوب توجيه القلوب إلى الله في جميع الأمور وإخلاص العبادة لله وحده ؛ لأن العباد خلقوا لذلك وبه أمروا كما سبق في الآيات ، كما في قوله سبحانه: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ﴾[النساء:36] وقوله سبحانه: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾[البينه:5]وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث معاذ - رضي الله عنه - : «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا»متفق على صحته وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - : «من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار»رواه البخاري وفي الصحيحين من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله»وفي لفظ: «فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله» وفي رواية للبخاري: «فادعهم إلى أن يوحدوا الله» وفي صحيح مسلم عن طارق بن أشيم الأشجعي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل»والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، وهذا التوحيد هو أصل دين الإسلام وهو أساس الملة وهو رأس الأمر وهو أهم الفرائض وهو الحكمة في خلق الثقلين والحكمة في إرسال الرسل جميعا عليهم الصلاة والسلام كما تقدمت الآيات الدالة على ذلك ، ومنها قوله سبحانه: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾[الذاريات: 56] ومن الأدلة على ذلك أيضا قوله عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾[النحل: 36]وقوله سبحانه: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾[الأنبياء:25]وقال عز وجل عن نوح وهود وصالح وشعيب عليهم الصلاة والسلام أنهم قالوا لقومهم: ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾[الأعراف: 59] وهذه دعوة الرسل جميعا كما دلت على ذلك الآيتان السابقتان .
وقد اعترف أعداء الرسل بأن الرسل أمروهم بإفراد الله بالعبادة وخلع الآلهة المعبودة من دونه كما قال عز وجل في قصة عاداتهم قالوا لهود عليه الصلاة والسلام: ﴿ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ﴾[الأعراف: 70]وقال سبحانه وتعالى عن قريش لما دعاهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى إفراد الله بالعبادة وترك ما يعبدون من دونه . من الملائكة والأولياء والأصنام والأشجار وغير ذلك: ﴿ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾[ص: 5]وقال عنهم سبحانه في سورة الصافات: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ﴾[الصافات: 35- 36]والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة ومما ذكرناه من الآيات والأحاديث يتضح لك وفقني الله وإياك للفقه في الدين والبصيرة بحق رب العالمين .
إن هذه الأدعية وأنواع الاستغاثة التي بينتها في سؤالك كلها من أنواع الشرك الأكبر ؛ لأنها عبادة لغير الله وطلب لأمور لا يقدر عليها سواه من الأموات والغائبين ، وذلك أقبح من شرك الأولين ؛ لان الأولين إنما يشركون في حال الرخاء ، وإما في حال الشدائد فيخلصون لله العبادة ؛ لأنهم يعلمون أنه سبحانه هو القادر على تخليصهم من الشدة دون غيره ، كما قال تعالى في كتابه المبين عن أولئك المشركين: ﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾[العنكبوت: 65] وقال سبحانه وتعالى يخاطبهم في آية أخرى في سورة سبحان: ﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا ﴾[الإسراء: 67]فإن قال قائل من هؤلاء المشركين المتأخرين: إنا لا نقصد أن أولئك ينفعون بأنفسهم ويشفون مرضانا بأنفسهم أو يعينونا بأنفسهم أو يضرون عدوا بأنفسهم وإنما نقصد شفاعتهم إلى الله في ذلك .
فالجواب أن يقال لهم: إن هذا هو مقصد الكفار الأولين ومرادهم ، وليس مرادهم أن آلهتهم تخلق أو ترزق أو تنفع أو تضر بنفسها فإن ذلك يبطله ما ذكره الله عنهم في القرآن إنما أرادوا شفاعتهم وجاههم وتقريبهم إلى الله زلفى ، كما قال سبحانه وتعالى في سورة يونس عليه الصلاة والسلام: ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ ﴾[يونس: 18] فرد الله عليهم ذلك بقول سبحانه: ﴿ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾[يونس: 18]فأبان سبحانه أنه لا يعلم في السماوات ولا في الأرض شفيعا عنده على الوجه الذي يقصده المشركون وما لا يعلم الله وجوده لا وجود له ؛ لأنه سبحانه لا يخفى عليه شيء وقال تعالى في سورة الزمر: ﴿ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾[الزمر:1]﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ *أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ﴾[الزمر:2- 3]فأبان سبحانه أن العبادة له وحده ، وأنه يجب على العباد إخلاصها له جل وعلا ؛ لأن أمره للنبي - صلى الله عليه وسلم - بإخلاص العبادة له أمر للجميع . ومعني الدين هنا هو العبادة والعبادة هي طاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما سلف ويدخل فيها الدعاء والاستغاثة والخوف والرجاء والذبح والنذر كما يدخل فيها الصلاة والصوم وغير ذلك مما أمر الله به ورسوله . ثم قال عز وجل بعد ذلك: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾[الزمر: 3] أي يقولون: ما نعبدهم إلا ليقربنا إلى الله زلفى ، فرد الله عليهم بقوله سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ﴾[الزمر: 3]فأوضح سبحانه في هذه الآية الكريمة أن الكفار ما عبدوا الأولياء من دونه إلا ليقربوهم إلى الله زلفى . وهذا هو مقصد الكفار قديما وحديثا وقد أبطل الله ذلك بقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ﴾[الزمر: 3]فأوضح سبحانه كذبهم في زعمهم أن آلهتهم تقربهم إلى الله زلفى وكفرهم بما صرفوا لها من العبادة ؛ وبذلك يعلم كل من له أدنى تمييز أن الكفار الأولين إنما كان كفرهم باتخاذهم الأنبياء والأولياء والأشجار والأحجار وغير ذلك من المخلوقات شفعاء بينهم وبين الله ، واعتقدوا أنهم يقضون حوائجهم من دون إذنه سبحانه ولا رضاه ، كما تشفع الوزراء عند الملوك ، فقاسوه عز وجل على الملوك والزعماء وقالوا: كما أن من له حاجة إلى الملك والزعيم يشفع إليه بخواصه ووزرائه ، فهكذا نحن نتقرب إلى الله بعبادة أنبيائه وأوليائه ، وهذا من أبطل الباطل ؛ لأنه سبحانه لا شبيه له ولا يقاس بخلقه ، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه ، ولا يأذن في الشفاعة إلا لأهل التوحيد ، وهو سبحانه وتعالى على كل شيء قدير ، وبكل شيء عليم ، وهو أرحم الراحمين لا يخشى أحدا ولا يخافه ؛ لأنه سبحانه هو القاهر فوق عباده والمتصرف فيهم كيف يشاء ، بخلاف الملوك والزعماء ، فإنهم ما يقدرون على كل شيء ، ولا يعلمون كل شيء ؛ فلذلك يحتاجون إلى من يعينهم على ما قد يعجزون عنه من وزرائهم وخواصهم وجنودهم ، كما يحتاجون إلى تبليغهم حاجات من لا يعلمون حاجته ؛ ولأن الملوك والزعماء قد يظلمون ويغضبون بغير حق فيحتاجون إلى من يستعطفهم ويسترضيهم من وزرائهم وخواصهم ، أما الرب عز وجل فهو سبحانه غني عن جميع خلقة ، وهو أرحم بهم من أمهاتهم ، وهو الحاكم العدل يضع الأشياء في مواضعها على مقتضى حكمته وعلمه وقدرته ، فلا يجوز أن يقاس بخلقه بوجه من الوجوه ؛ ولهذا أوضح سبحانه في كتابه أن المشركين قد أقروا بأنه الخالق الرازق المدبر ، وأنه الذي يجيب المضطر ويكشف السوء ويحيي ويميت ، إلى غير ذلك من أفعاله سبحانه ، وإنما الخصومة بين المشركين وبين الرسل في إخلاص العبادة لله وحده ، كما قال عز وجل: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾[الزخرف: 87] وقال تعالى ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾[يونس: 21]والآيات في هذا المعنى كثيرة . وسبق ذكر الآيات الدالة على أن النزاع بين الرسل وبين الأمم إنما هو في إخلاص العبادة لله وحده كقوله سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾[النحل: 36]وما جاء في معناها من الآيات وبين سبحانه في مواضع كثيرة من كتابه الكريم شأن الشفاعة فقال تعالى في سورة البقرة ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾[البقرة: 255]وقال في سورة النجم: ﴿ وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ﴾[النجم: 26] وقال في سورة الأنبياء في وصف الملائكة: ﴿ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ﴾[الأنبياء: 28]وأخبر عز وجل أنه لا يرضى من عباده الكفر ، وإنما يرضى منهم الشكر ، والشكر هو: توحيده والعمل بطاعته فقال تعالى في سورة الزمر: ﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ﴾[الزمر: 7]الآية .
وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: «يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك ؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو قال: من نفسه»وفي الصحيح عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وأني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا» والأحاديث في هذا المعنى كثيرة . وجميع ما ذكرنا من الآيات والأحاديث كله يدل على أن العبادة حق الله وحده ، وأنه لا يجوز صرف شيء منها لغير الله لا للأنبياء ولا لغيرهم ، وأن الشفاعة ملك الله عز وجل ، كما قال سبحانه ﴿ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ﴾[الزمر: 44]الآية ، ولا يستحقها أحد إلا بعد إذنه للشافع ورضاه عن المشفوع فيه وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد كما سبق . أما المشركون فلا حظ لهم في الشفاعة كما قال تعالى: ﴿ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ﴾[المدثر: 48]وقال تعالى ﴿ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ﴾[غافر: 18]الآية ، والظلم عند الإطلاق هو الشرك كما قال تعالى ﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾[البقرة: 254]وقال تعالى ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾[ لقمان:13]أما ما ذكرته في السؤال من قول بعض الصوفية في المساجد وغيرها: اللهم صل على من جعلته سببا لانشقاق أسرارك الجبروتية وانفلاقا لأنوارك الرحمانية فصار نائبا عن الحضرة الربانية وخليفة أسرارك الذاتية ... الخ ف أن يقال أن هذا الكلام وأشباهه من جملة التكلف والتنطع الذي حذر منه نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم في الصحيح عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «هلك المتنطعون قالها ثلاثا» . قال الإمام الخطابي رحمه الله: المتنطع المتعمق في الشيء المتكلف البحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم ، الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم . وقال أبو السعادات ابن الأثير: هم المتعمقون المغالون في الكلام ، المتكلمون بأقصى حلوقهم ؛ مأخوذ من النطع وهو الغار الأعلى من الفم ، ثم استعمل في كل تعمق قولا وفعلا . وبما ذكره هذان الإمامان وغيرهما من أئمة اللغة يتضح لك ولكل من له أدنى بصيرة أن هذه الكيفية في الصلاة والسلام على نبينا وسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جملة التكلف والتنطع المنهي عنه ، والمشروع للمسلم في هذا الباب أن يتحرى الكيفية الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صفة الصلاة والسلام عليه وفي ذلك غنية عن غيره ، ومن ذلك ما روى البخاري و مسلم في الصحيحين واللفظ للبخاري عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - «أن الصحابة - رضي الله عنهم - قالوا: يا رسول الله أمرنا الله أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك ؟ فقال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل ممد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» وفي الصحيحين عن أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - أنهم «قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك ؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد»وفي صحيح مسلم عن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - قال: «قال بشير بن سعد يا رسول الله أمرنا الله أن نصلى عليك فكيف نصلي عليك ؟ فسكت ثم قال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد والسلام كما علمتم .»
فهذه الألفاظ وأشباها وغيرها مما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هي التي ينبغي للمسلم أن يتعلمها في صلاته وسلامه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو أعلم الناس بما يليق أن يستعمل في حقه ، كما أنه هو أعلم الناس بما ينبغي أن يستعمل في حق ربه من الألفاظ ، أما الألفاظ المتكلفة والمحدثة والألفاظ المحملة لمعنى غير صحيح ، كالألفاظ التي ذكرت في السؤال فإنه لا ينبغي استعمالها ؛ لما فيها من التكلف ، ولكونها قد تفسر بمعان باطلة مع كونها مخالفة للألفاظ التي اختارها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأرشد إليها أمته ، وهو أعلم الخلق وأنصحهم وأبعدهم عن التكلف ، عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم . وأرجو أن يكون فيما ذكرناه من الأدلة في بيان حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك، والفرق بين ما كان عليه المشركون الأولون والمشركون المتأخرون في هذا الباب ، وفي بيان كيفية الصلاة المشروعة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفاية ومقنع لطالب الحق .
أما من لا رغبة له في معرفة الحق فهذا تابع لهواه ، وقد قال الله عز وجل: ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾[القصص: 50] فبين سبحانه في هذه الآية الكريمة أن الناس بالنسبة إلى ما بعث الله به نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - من الهدى ودين الحق قسمان: أحدهما مستجيب لله ولرسوله ، والثاني تابع لهواه ، وأخبر سبحانه أنه لا أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله . فنسأل الله عز وجل العافية من اتباع الهوى ، كما نسأله سبحانه أن يجعلنا وإياكم وسائر إخواننا من المستجيبين لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، والمعظمين لشرعه والمحذرين من كل ما يخالف شرعه من البدع والأهواء ، إنه جواد كريم . وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وأصحابه وأتباعه بإحسان .