الجواب
الذي نراه: أن الحجة لا تقوم إلا إذا بلغت المكلف على وجه يفهمها، لكن نعرف أن أفهام الناس تختلف، من الناس من يفهم من هذا النص معنىً جلياً مثل الشمس، ومعنىً لا يحتمل عنده أي شك، ومن الناس من يفهم النص فهماً أولياً مع احتمال شك في قلبه، فالأول في قمة المعرفة والعلم، والثاني في أول العلم، والثاني قد قامت عليه الحجة لا شك؛ لأنه فهم منه ما يراد به، لكن ليس على الفهم التام الذي فهمته الطائفة الأولى كـ أبي بكر وعمر، وأما من بلغه النص ولكنه لم يعرف منه معنىً أصلاً كرجل أعجمي بلغه النص باللغة العربية ولكن لا يدري ما معنى هذا النص، فهذا لم تقم عليه الحجة بلا شك، ودليل هذا قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾[إبراهيم:4] أي: بعد البيان بهذا اللسان الذي يفهمونه يضل الله من يشاء، فلا يقبل ويهدي من يشاء فيقبل.
وأي فائدة لرجل أعجمي يُقرأ عليه القرآن من لسان عربي وهو لا يدري ما هو، أنت الآن لو أتى إليك رجل أعجمي وأنت عربي لا تفهم الأعجمية ثم كلمك بخطبة خمس صفحات أو أكثر لا تفهم منها شيئاً إطلاقاً فكذلك العجم بالنسبة للعرب.
فالذي نرى: أنه لا بد من بلوغ الحجة وفهم معناها على وجه يتبين له الحق، وأما قوله تعالى: ﴿لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾[الأنعام: 19] فلا شك أن القرآن نزل بلفظ ومعنى، فالمراد من بلغه لفظه ومعناه، أو ومن بلغه من أهل هذه اللغة الذين تقوم عليهم الحجة إذا بلغهم القرآن بمجرد وصوله إليهم، وهذا القول هو الذي تدل عليه الأدلة بخصوصها وأدلة أخرى بعمومها مثل قوله تعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾[البقرة: 286] وقوله: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾[التغابن: 16] ومن المعلوم أن من لا يعرف المعنى فإنه ليس بوسعه أن يقبله، لكن على من بلغه أن الرسول محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد بعث، وأن دينه نسخ الأديان كلها، يجب عليه أن يبحث، وهنا قد يفرط في البحث فلا يكون معذوراً لتفريطه.