السبت 11 شوال 1445 | آخر تحديث قبل 5 ساعات
0
المشاهدات 1673
الخط

اختلاف العلماء في مسألة القدر

السؤال:

سئل فضيلة الشيخ: عن مسألة القدر؟ وهل أصل الفعل مقدر، والكيفية يخير فيها الإنسان؟ مثال ذلك: إذا قدر الله تعالى للعبد أن يبني مسجدا فإنه سيبني لا محالة، لكنه ترك لعقله الخيار في كيفية البناء، وكذلك المعصية إذا قدرها الله فإن، الإنسان سيفعلها لا محالة، لكن ترك لعقله كيفية تنفيذها، وخلاصة هذا الرأي: أن الإنسان مخير في الكيفية التي ينفذ بها ما قدر عليه فهل هذا صحيح؟

الجواب:

هذه المسألة -أي مسألة القدر- محل جدل بين البشر من قديم الزمان، ولذلك انقسم الناس فيها إلى ثلاثة أقسام: طرفين، ووسط. أما الطرفان: فأحدهما: نظر إلى عموم قدر الله فعمي عن اختيار العبد. وقال: إنه مجبر على أفعاله، وليس له فيها أي اختيار، فسقوط الإنسان من السقف بالريح ونحوها كنزوله منه مختارا من الدرج. وأما الطرف الثاني: فنظر إلى أن العبد فاعل، تارك باختياره، فعمي عن قدر الله، وقال: إن العبد مستقل بأفعاله، ولا تعلق لقدر الله تعالى فيها. وأما الوسط: فأبصروا السببين، فنظروا إلى عموم قدر الله تعالى وإلى اختيار العبد، فقالوا: إن فعل العبد كائن بقدر الله تعالى وباختيار العبد، وإنه يعلم بالضرورة الفرق بين سقوط الإنسان من السقف بالريح ونحوها، ونزوله منه مختارا من الدرج، فالأول: من فعله بغير اختياره، والثاني: باختياره، والكل منهما واقع بقضاء الله وقدره، لا يقع في ملكه ما لا يريد، لكن ما وقع باختيار العبد فهو مناط التكليف، ولا حجة له بالقدر في مخالفة ما كلف به من أوامر أو نواه، وذلك؛ لأنه يقدم على المخالفة حين يقدم عليها وهو لا يعلم ما قدر الله عليه، فيكون إقدامه الاختياري على المخالفة هو سبب العقوبة، سواء كانت في الدنيا أم في الآخرة، ولذلك لو أجبره مجبر على المخالفة، لم يثبت عليه حكم المخالفة، ولا يعاقب عليها؛ لثبوت عذره حينئذ. وإذا كان الإنسان يدرك أن هروبه من النار إلى موضع يأمن فيه منها يكون باختياره، وأن تقدمه إلى بيت جميل واسع طيب المسكن ليسكنه يكون باختياره أيضا، مع إيمانه أن هروبه وتقدمه المذكورين واقعان بقضاء الله وقدره، وأن بقاءه لتدركه النار، وتأخره عن سكنى البيت يعد تفريطا منه، وإضاعة للفرصة يستحق اللوم عليه؛ فلماذا لا يدرك هذا بالنسبة لتفريطه بترك الأسباب المنجية له من نار الآخرة، الموجبة لدخوله الجنة؟! وأما التمثيل بأن الله إذا قدر للعبد أن يبني مسجدا فإنه سيبني هذا المسجد لا محالة، لكنه ترك لعقله الخيار في كيفية البناء، فهذا تمثيل غير صحيح؛ لأنه يوحي بأن كيفية البناء يستقل بها العقل ولا تدخل في قدر الله تعالى، وأن أصل فكرة البناء يستقل بها القدر، ولا مدخل للاختيار فيها. والحقيقة: أن أصل فكرة البناء تدخل في اختيار العبد؛ لأنه لم يجبر عليها، كما لا يجبر على فكرة إعادة بناء بيته الخاص، أو ترميمه مثلا، ولكن هذه الفكرة قد قدرها الله تعالى للعبد من حيث لا يشعر؛ لأنه لا يعلم بأن الله قدر شيئا ما، حتى يقع ذلك الشيء، إذ القدر سر مكتوم، لا يعلم إلا باطلاع الله تعالى عليه بالوحي، أو بالوقوع الحسي. وكذلك كيفية البناء هي بقدر الله تعالى، فإن الله تعالى قد قدر الأشياء كلها جملة وتفصيلا، ولا يمكن أن يختار العبد ما لم يُرِدْه أو يقدره، بل إذا اختار العبد شيئا وفعله، علم يقينا أن الله تعالى قد قضاه وقدره. فالعبد مختار بحسب الأسباب الحسية الظاهرة التي قدرها الله تعالى، أسبابا لوقوع فعله، ولا يشعر العبد حين يفعل الفعل بأن أحدا أجبره عليه، لكنه إذا فعل ذلك بحسب الأسباب التي جعلها الله تعالى أسبابا علمنا يقينا بأن الله تعالى، قد قدرها جملة وتفصيلا. وهكذا نقول في التمثيل بفعل الإنسان المعصية، حيث قلتم: إن الله قدر عليه فعل المعصية فهو سيفعلها لا محالة، ولكن ترك لعقله كيفية تنفيذها والسعي إليها. فنقول فيه ما قلناه في بناء المسجد: إن تقدير الله تعالى عليه فعل المعصية لا ينافي اختياره لها؛ لأنه حين اختياره لها لا يعلم بما قدر الله تعالى عليه، فهو يقدم عليها مختارا لا يشعر بأن أحدا يجبره، لكنه إذا أقدم وفعل علمنا أن الله قد قدر فعله لها، وكذلك كيفية تنفيذ المعصية والسعي إليها الواقعة باختيار العبد، لا تنافي قدر الله تعالى، فالله تعالى قد قدر الأشياء كلها جملة وتفصيلا وقدر أسبابها الموصلة إليها، ولا يشذ عن ذلك شيء من أفعاله، ولا من أفعال العباد الاختيارية منها والاضطرارية، كما قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾[الحج: 70]. وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾[الأنعام: 112]، وقال: ﴿وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾[الأنعام: 137]. وقال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا﴾[البقرة: 253] وبعد فإن الجدير بالمرء ألا يبحث في نفسه، ولا مع غيره في مثل هذه الأمور التي توجب له التشوش، وتوهم معارضة الشرع بالقدر، فإن ذلك ليس من دأب الصحابة -رضي الله عنهم- وهم أحرص الناس على معرفة الحقائق، وأقربهم من معين إرواء الغلة، وكشف الغمة، وفي صحيح البخاري، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة، ومقعده من النار»، فقلنا: يا رسول الله، أفلا نتكل؟ وفي رواية: «أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: «لا اعملوا فكل ميسر». وفي رواية: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة. وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة». ثم قرأ: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾[الليل: 5-10]. فنهى النبي-صلى الله عليه وسلم- عن الاتكال على الكتاب وترك العمل؛ لأنه لا سبيل إلى العلم به، وأمر بما يستطيعه العبد ويمكنه، وهو العمل، واستدل بالآية التي تدل على أن من عمل صالحا، وآمن فسييسر لليسرى، وهذا هو الدواء الناجع المثمر، الذي يجد فيه العبد بلوغ عافيته وسعادته، حيث يشمر للعمل الصالح المبني على الإيمان، ويستبشر بذلك حين يقارنه التوفيق لليسرى في الدنيا والآخرة. أسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعا للعمل الصالح، وأن ييسرنا لليسرى، ويجنبنا العسرى، ويغفر لنا في الآخرة والأولى، إنه جواد كريم.

المصدر:

مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين(2/86-90)

أضف تعليقاً