النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحج غير حجة الوداع، فإنه حجها وسميت حجة الوداع؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ودع الناس فيها بخطبته لما خطب بعرفات، وأوصاهم وأمرهم ونهاهم وخطب خطبته الخالدة البليغة -صلى الله عليه وسلم- وهو كما هو معروف أحرم من ذي الحليفة التي قرب المدينة، واستمر حتى وصل إلى مكة في اليوم الرابع من شهر ذي الحجة، وطاف للقدوم؛ لأنه كان قارنًا -عليه الصلاة والسلام- وقد ساق الهدي معه -صلوات الله وسلامه عليه- ثم سعى بين الصفا والمروة، وأمر أصحابه الذين لم يسوقوا هديًا أن يحلوا ويجعلوها عمرة، ولا يبقوا قارنين؛ لأن العمرة أفضل وأسهل وأيسر لهم ما دام أنهم لم يسوقوا هديًا؛ لأن سوق الهدي يمنع التحلل كما أن الوقوف بعرفة يمنع التحلل؛ فإذا أحرم الإنسان وقد ساق الهدي فإنه لا يتحلل من حجه إلى عمرة، وإذا أيضًا أحرم ثم وقف بعرفة فإنه لا يتحلل من حجه إلى عمرة ما دام أنه إما ساق الهدي أو وقف بعرفة، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أمر أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي أن يجعلوها عمرة، وفعلًا جعلوها عمرة وهذا هو المعمول به الآن التمتع، وهو أيسر وأسهل للناس وأرفق بهم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- حريص على دفع العنت والمشقة عن هذه الأمة -صلوات الله وسلامه عليه- فبرسالته وما جاء به من شريعة رفع الأغلال والآصار عن هذه الأمة {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج : ٧٨].
استمر النبي -صلى الله عليه وسلم- محرمًا ثم ذهب في اليوم الثامن إلى منى، وصلى بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر الذي هو اليوم التاسع من شهر ذي الحجة وهذا أفضل إذا أمكن أن يذهب الإنسان إلى منى في اليوم الثامن، وأن يبيت ليلة التاسع بمنى، وفي الصباح يمشي من منى متجها إلى عرفات، ويبقى خارج عرفات إلى وقت الوقوف بعرفة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- الذي ثبت عنه أنه كان يقصر الرباعية ولا يجمع بمنى، أما بعرفات فقد جمع وقصر الظهر والعصر صلاهما جمعًا، وقصرًا، وكذا أيضًا بمزدلفة قصر الرباعية وجمع بين المغرب والعشاء، ولما زالت الشمس وصلى دخل عرفة وبقي فيها حتى غربت الشمس، ثم دفع إلى مزدلفة في سكينة وبقي أيضًا بمزدلفة حتى صلى الصبح، ثم وقف عند المشعر الحرام، ودفع من مزدلفة إلى جمرة العقبة ورماها -عليه الصلاة والسلام- بسبع حصيات، ثم ذهب ونحر هديه ثم دعا الحلاق وحلق -صلوات الله وسلامه عليه- ثم بعد ذلك ذهب إلى مكة وطاف طواف الإفاضة ولم يسعَ لأنه قارن، وقد سعى قبل الذهاب إلى منى وإلى عرفات ثم رجع إلى منى -عليه الصلاة والسلام- وبقي فيها، ولم ينفر إلَّا في اليوم الثالث عشر ولم يعجل، ثم في اليوم الثالث عشر نزل وبقي بالمحصب الذي هو قريب من العدل حتى خرج من مكة، هذا هو ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان في كثير من المواقف يقول: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَحُجُ بَعْدَ حَجَّتِي هذه» [رواه مسلم (1297) من حديث جابر -رضي الله عنه-]، يعني: اعملوا كما عملت وافعلوا كما فعلت -صلى الله عليه وسلم-.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟