المسجد الحرام والبيت الحرام معناه واضح، وهو أن الله حرم هذا البيت، بمعنى: أنه لا يجوز لأحد أن يتجاوز حده فيه، وأن يسفك فيه دمًا، أو يقطع فيه شجرًا، أو يقتل فيه صيدًا، أو يقطع حشيشه، أو حتى يأخذ لقطته التي هي مباحة أو سائغة في غيره، ولكنها من خصائص مكة أو من خصائص بيت الله الحرام، وقد جاء في القرآن آيات كثيرة كقوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 125 - 126]، فهذه الآيات تدل على أن هذا البيت له من الحرمة، وله من القدسية، وله من المكانة ما لا يشركه فيه بقعة على وجه الأرض، وكان هذا معروفًا في الجاهلية، بحيث إن الرجل إذا رأى من له عنده ثأر دم بالحرم فلا يعرض له بشيء حتى يخرج من الحرم، وهم كفار في ذلك الوقت يحترمون الحرم كله وليس المسجد فقط، أو ظلال الكعبة فقط بل جميع الحرم يحترمونه، ولا يستبيحون فيه سفك الدماء، ولا حتى اللقطة إذا سقطت من الإنسان ما يلتقطونها إلا لمنشد، يعني: لا يأخذونها لهم، وتختلف لقطة الحرم عن غيره، ولا يعضد شجره، ولا يختلى خلاه، يعني: حشيشه، ولا ينفر صيده، ومن هنا يتبين أن أي اعتداء على حرم الله، وجوار بيته، ومحل أمنه وموطن العبادة لوفود الرحمن لا يحل، كما لا يحل لأحد أن يفعل فيها ما يؤذي الحجاج وفود الرحمن لا يحل، كما لا يحل لأحد أن يفعل فيها ما يؤذي الحجاج ويؤذي وفود الرحمن، ويسبب لهم المتاعب، ويجعلهم غير مطمئنين، بدل أن كانوا واثقين مطمئنين إلى وعد الله بأن من دخل هذا البيت كان آمنًا مطمئنًا {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96 - 97].
وهكذا يشيد الله –عز وجل- ويبين للناس أن هذا البيت يجب أن يكون آمنًا مطمئنًا، لا يجوز لأحد بحال من الأحوال أن يزعج حجاج هذا البيت وزوراه ووفود الرحمن، ومن هنا يتبين لنا أن ما فعله حكام إيران في أحد الأعوام من أكبر الظلم على البيت الحرام، وهو من أعظم الجرائم والعياذ بالله، وهو فساد وشر مستطير، وأن أي مسلم بل ولا كافر لا يرى أن هذا جائز تحت أي اسم، سواء اسم مسيرة، أو مظاهرة، أو احتجاج، أو تحت أي ذريعة، هذا لا يجوز، ولا يحل لأحد أن يقاتل في الحرم إلا دفاعًا عن النفس، أو دفاعًا عن الحرم والمقدسات، وأما أن أحدًا يتسبب في إضرام نار الفتنة، أو سفك الدماء في حرم الله وبيته وأمنه وموطن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن هذا لا يجوز وتقدم لنا من الآيات ما يدل على ذلك، وقوله أيضًا في بعض الآيات: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] لا يجوز حتى الجدل والنزاع والفسوق الذي هو أقل من القتل ومن سفك الدماء، لا يجوز أن يفعلها الحاج، ولا يجوز أن تفعل في بيت الله الحرام وفي حرم الله الآمن وفي آية أخرى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] فهنا مجرد الإرادة للسواء في بيت الله الحرام سبب لعقاب الله –عز وجل- سبب لسخط الله وأليم عقابه حتى ولو كان هذا المريد بعيدًا عن الحرم، فإنه يعاقب على الإرادة والهم بإرادة السوء في بيت الله فلا يجوز لأحد أن يزعج الحجاج، وأن يخفيهم {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] وهذه وظيفة الحرم وليست الكعبة ولا الحرم مجالًا للصراعات، ولا الاحتجاجات، ولا ميدان معارك وحروب، وسفك دماء، وأذية للضعفاء، ولأناس جاؤوا من كل فج عميق لا يريدون إلا أداء النسك، والتقرب إلى الله –عز وجل- ثم يفاجأون بمن يسفك دماءهم، ويزهق أرواحهم، ويجعلهم خائفين مذعورين يلتمسون المخرج، نسأل الله العافية.
ومن الآيات أيضًا التي ذكرها الله –عز وجل- في هذا: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57]، وفي سورة التين: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 1 - 3] يعني: هذا بلد آمن، ويجب أن يكون آمنًا، وفي سورة قريش: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 1 - 4]، يعني: أن الله وفر لهم من الخيرات ومن الأمن والطمأنينة ما لم يوفره لغيرهم.
وأبونا إبراهيم الخليل -عليه أفضل الصلاة والسلام- قال: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 126]، وقال في الآية الأخرى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]، هذه كلها نصوص شرعية تدل على أن الله كتب لأهله الطمأنينة والأمان، وهذا أمر نزل به الكتاب العزيز والسنة المطهرة، وأجمعت عليه أمة الإسلام، ولا يختلف فيه اثنان أنه لا يجوز فيه الاقتتال، ولا سفك الدماء، ولا أذية الحجاج، ولا مضايقتهم، ولا التعرض لهم بسوء إطلاقًا، ما لم يعتد معتد فتقتضي الضرورة مدافعته ودفع شره، ولهذا لما خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد غزوة الفتح قال: «إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها فقولوا: إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب»[رواه البخاري (104)، ومسلم (1354) من حديث أبي شريح رضي الله عنه] قال أبو شريح راوي الحديث: «سمعته أذناي ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تكلم به».
فهذا أمر متفق عليه، وبهذا يعلم أن جميع ما فعله الرافضة الإيرانيون -والعياذ بالله- في موسم الحج جهل وضلال، وعدوان على الدين الإسلامي، وعلى المسلمين، وعلى حرم الله –عز وجل- وبيته الحرام، وعلى المقدسات، وعلى حجاج بيت الله الحرام، الذين جاؤوا من كل فج عميق آمنين مطمئنين لا يريدون قتالًا ولا خصومة، ولا شعارات، ولا هتافات، ولا تعرضًا لأحد، فلماذا يستبيحون هذا الشيء الذي لا يفعله إلا إنسان مكابر مجاهر بعدم احترام كتاب الله وسنة رسوله، نسألك اللهم العافية.
[ثمر الغصون في فتاوى الشيخ صالح بن علي بن غصون (8 / 10-14)]
هل انتفعت بهذه الإجابة؟