طواف الحج الذي هو طواف الإفاضة لا يجوز تقديمه قبل البيتوتة بمنى ووقته يبدأ من نصف الليل من ليلة النحر، ومن كان من الضعفاء، وأراد أن يذهب، ويرمي جمرة العقبة قبل الفجر، فله ذلك؛ كما دلت عليه السنة، النبي -صلى الله عليه وسلم- أذن للضعفة، وقدم ضعفة أهله، وإن كان الأفضل التأخير، مثل: الرمي إلى ما بعد طلوع الشمس؛ لأنه جاء عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ -رضي الله عنهما- قَالَ: «قَدَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ أُغَيْلِمَةَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَجَعَلَ يَلْطَحُ أَفْخَاذَنَا بِيَدِهِ، وَيَقُولُ: أَيْ أُبَيْنِيَّ لَا تَرْمُوا حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» [رواه البيهقي5/131]، ولكن من رمى قبل ذلك، فهو جائز؛ كما هو فعل الضعفاء في عهده وبعد ذلك يبدأ وقت الطواف، وذلك لظاهر قوله -عز وجل-: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29].
بيَّن هذا سُنَّة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسُنَّة النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خرجت مخرج التفسير للأمر في القرآن، فإنها تكون للوجوب، يعني: فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يدل على الاستحباب وعلى السُنّيَّة، إلا إذا اقترن به قرائن مما يحول الفعل من الاستحباب إلى الوجوب، أن يكون خرج امتثالًا للمأمور به، وهذه لها أمثلة كثيرة جدًّا في الفقه، وهي من القواعد المهمة في الأصول.
يعني: مثلًا الآن ما دليل البيتوتة في المزدلفة؟ النبي -صلى الله عليه وسلم- بات فيها، فما دليل وجوب البيتوتة؟ تعرفون أن من أهل العلم من قال: إنها سنة، ومنهم قال: إنها واجب، فالإمام مالك يقول: سنة، ومنهم من يقول -وهم الجمهور- إنها واجب فما دليل الوجوب؟
قول الله -سبحانه وتعالى-: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198]، هنا أمر بذكره عند المشعر الحرام، هذا الذكر عنده، فسر بفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه بات في ذلك حتى أصبح، فهل يشمل هذا الامتثال الوجوب بالبيتوتة وصلاة الفجر، وحتى يُسفر جدًا كما هو الفعل؟
هذا ظاهر الامتثال، لكن خرج منه من يُرخص له بدليل آخر، فبقيت البيتوتة على أصلها واجبة كذلك البيتوتة ليالي منى، ما دليلها؟
رمي الجمار، ما دليل وجوبه؟ النبي -صلى الله عليه وسلم- فعل، وقال: «خُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ»، لكن قال -سبحانه وتعالى-: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203]، فأمر بذكره في أيام معدودات، وهذا الذكر فُسر بفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في شيئين:
أولًا: في الرمي في الأيام، وفي البيتوتة في الليالي؛ أما الرمي، فظاهر أنه في اليوم، وأما البيتوتة، فلاقتران قوله: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة : 203]، فدلت الآية، وتفسير النبي -صلى الله عليه وسلم- وامتثاله للأمر بفعله، دل ذلك على الوجوب، وهكذا.
وقوله -سبحانه وتعالى-: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، دل على أن قضاء التفث، يعني: الحلق والتقصير، أنه يكون بعد الفراغ من عرفة، والوفاء بالنذور لمن عنده نذر يكون بعده، يعني: من ذبح وغيره، وكذلك الطواف بالبيت العتيق يكون بعده، خرج الأول والثاني من الترتيب، يعني أن يكون مرتبًا، فقد ورد عَنْ عبد الله بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله عنهما- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنِّى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ. فَقَالَ: اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ فَجَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرُ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِي. قَالَ: ارْم وَلَا حَرَجَ فَمَا سُئِلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ شَيْءٍ قُدَّمَ وَلَا أُخْرَ إِلا قَالَ: افْعَلْ وَلَا حَرَجَ» [رواه ومسلم (1306)].
فإذًا، يكون الترتيب بالواو هنا غير مقصود، لكن هو فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- رمى جمرة العقبة، ثم حلق، ثم بعد ذلك حل، ثم طاف بالبيت طواف الإفاضة، ويبدأ من نصف ليلة النحر، وما قبله لا يصح طواف الإفاضة، لكن السعي يجوز له تقديمه مع طواف الزيارة؛ كما دلت عليه السنة العملية. [شرح مسائل الجاهلية].
[الأجوبة والبحوث والمدارسات للشيخ صالح آل الشيخ (3 /470)].
هل انتفعت بهذه الإجابة؟