لا شك أنه قد دلت النصوص على أن القيام منه منهي عنه، ومنه مأذون فيه، ويمكن أن يفصل في ذلك على أن النصوص جاءت على ثلاثة أنحاء:
الحال الأول: القيام على الجالس، وهذا محرم وفيه تشبه بالفرس، وقد جاء فيه حديث جابر -رضي الله عنه-: «قال: اشتكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يُسمع الناس تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قيامًا، فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعودًا، فلما سلم قال: إن كدتم آنفًا لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا ائتموا بأئمتكم، إن صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإن صلى قاعدًا فصلوا قعودًا» [أخرجه مسلم(413)] فدل هذا على أن القيام على الجالس محرم، وصفته أن يكون الغرض هو تعظيم الجالس بالقيام عليه دائمًا، يعني: وهو جالس يقوم عليه في جميع الأنحاء، يعني: دائمًا يتخذ جماعة يقومون عليه، هذا محرم، ويستثنى من ذلك الحالات التي فيها مصلحة في القيام، مثلًا: عند ورود رسل العدو أو رسل الكفار أو لإظهار مهابة نافعة في كبت الأعداء أو نحو ذلك، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- لما كان صلح الحديبية «لما آتاه عروة من عند المشركين، وجعل يكلم النبي -صلى الله عليه وسلم- فكلما تكلم أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعه السيف وعليه المغفر» [أخرجه البخاري (2734) من حديث طويل].
قال ابن القيم -رحمه الله- في فوائد الغزوة: إنه يجوز القيام عليه عند قدوم رسل الكفار أو نحو هذه الصورة.
الحال الثانية: أن يكون القيام له، وهذه هي التي جاء فيها قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من سره أن يتمثل له الرجال قيامًا، فليتبوأ مقعده من النار»، وصح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا دخل على الصحابة لم يكونوا يقومون له لما يعلمون من كراهيته لذلك، هذا قيام له، قيام حتى يجلس ثم يجلسون، هذه فقط فترة المرور، يقومون له فإذا جلس جلسوا، هو -صلى الله عليه وسلم- كان يكره ذلك.
لهذا لم يكونوا يقومون له مع محبتهم له -صلى الله عليه وسلم- وتعظيمهم له، -صلى الله عليه وسلم- لما يعلمون من كراهيته لذلك -صلى الله عليه وسلم- هذا القيام له.
القيام له اختلف فيه العلماء على عدة أقوال، أشهرها قولان:
القول الأول: أنه يحرم القيام للقادم، وهو صفته ما ذكرته لك من أنه قيام حتى يمر فقط، ليس الغرض التسليم عليه، وليس الغرض أخذ شيء منه أو إمكانية مناولة أمر، يناوله شيئا أو يكرمه أو يجلسه، إنما إذا دخل يقومون له، فقال طائفة من أهل العلم، وهم الأكثرون: إن هذا منهي عنه ومكروه كراهة للتحريم؛ لدلالة الحديث عليه، ونهيه -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك.
القول الثاني: أن هذا فيه تفصيل، وتفصيله ما ذكره النووي وابن تيمية وجماعة من أهل العلم، من أن القيام للقادم احترامًا له أنه قد يكون محرمًا، وقد يكون مكروهًا، وقد يكون مباحًا، ويكون مباحًا إذا كان القادم من اهل المزية والفضل الديني، بأن يقام له احترامًا لا تعظيمًا له –تعظيم المهابة والخوف-، وإنما احترام له.
والحال الثانية، يعني من جواز الإباحة، أن يكون الناس اعتادوا القيام للداخل، فإذا ترك القيام أفضى إلى مفسدة وشيء في النفوس وفساد في ذات البين، قالوا: والشريعة جاءت بتحصيل الإصلاح لذات البين ودفع ما يأتي للنفوس من شرور الشيطان وتسويله.
وإذا كان كذلك، فإذا اعتاد الناس القيام بعضهم لبعض إذا دخل الداخل فإن هذا يجوز على اعتبار أنه عادة لا من جهة التعظيم؛ لأن النهي عنه كان على جهة التعظيم، وهذا ألف فيه النووي رحمه الله الرسالة المعروفة التي سماها، أو يعني معناها: (إباحة القيام لذوي المزية والفضل والعلم والإكرام)، أو شيء من هذا، وهي رسالة مطبوعة، وكان شيخ الإسلام رحه الله يميل إل التفصيل في ذلك.
والقول الثاني في المسألة، ويقول: أظهر من هذين القولين أنه المنع وهو في حق القادم الذي يجد في نفسه أن الناس لم يقوموا له أشد؛ لأنه يجب عليه أن يتخلص من هذا؛ لأن الحديث في حق القادم أشد، وهو حديث أبي مجلز قال: «خرج معاوية فقام عبدالله بن الزبير وابن صفوان حين رأوه. فقال: اجلسا سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من سره أن يتمثل له الرجال قيامًا، فليتبوأ مقعده من النار» [أخرجه الترمذي(2755)]، فإذا كان هو إذا أتى يحب أن يقوم له الناس تعظيمًا له وإجلالًا له، فإن هذا قد يدخل في الكبيرة؛ لأنه توعد عليه بالنار، وأما في حق القائم فنقول: إنه منهي عنه، وهو محرم في حقه أو لا يجوز؛ وذلك لأن الأحاديث، أحاديث النهي...، إلا إذا كان ثم ضرورة، وكان عدم قيامه يفضي إلى مفسدة، فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والضرورات تبيح المحظورات.
الحال الثالثة: في النصوص القيام إلى الشخص، القيام إليه وهذا مباح، بل مستحب؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر الأنصار أن يقوموا إلى سيدهم؛ كما في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: «لما نزلت بنو قريظة على حكم سعد –وهو ابن معاذ- بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان قريبًا منه، فجاء على حمار، فلما دنا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «قوموا إلى سيدكم، فجاء فجلس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له: إن هؤلاء نزلوا على حكمك. قال: فإني أحكم أن تقتل المقاتلة وأن تسبى الذرية. قال: لقد حكمت فيهم بحكم الملك» [أخرجه البخاري 3043].
وكذلك في حديث كعب بن مالك -رضي الله عنه- لما نزلت توبته «قال كعب: حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس حوله الناس، فقام إليَّ طلحة ابن عبيدالله يهرول حتى صافحني وهناني، والله ما قام إليَّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة»[أخرجه البخاري4418]، فالقيام إلى القادم للسلام عليه أو لإكرامه أو للحديث معه، فإن هذا مشروع، فإذا كان يأتي يسلم عليك، ما تسلم عليه وأنت جالس إذا يصافحك؛ أما إذا كان السلام سلامًا بدون مصافحة فهذا لا يقام له؛ لأنه يكون الصورة صورة قيام له؛ أما إذا كان سيصافحك، فإنه هنا لا بأس أن تقوم إليه؛ لأنه هنا قيام إليه لا قيام له قيام إليه لتلقاه، للسلام عليه، للترحيب به، وما أشبه ذلك. [شرح مسائل الجاهلية].
[الأجوبة والبحوث والمدارسات للشيخ صالح آل الشيخ 4/211-215]
هل انتفعت بهذه الإجابة؟