السبت 19 شوّال 1445 هـ

تاريخ النشر : 26-03-2020

حكم إرسال قيمة الأضحية لشراء أضحية في البلاد الفقيرة وذبحها هناك

الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم. وبالله التوفيق، ومنه نستمد الهداية والصواب:
اعلم أن الأضاحي شأنها كبير؛ لأنها من شعائر الله تعالى، وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾[الحج: 32]، وقد قرن الله تعالما النحر له بالصلاة، فقال: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾[الكوثر: 2], وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الأنعام: 162]، والنسك الذبح على أحد أقوال أهل التفسير، كما قال تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾[الحج: 34].
ولهذا اختلف العلماء -رحمهم الله تعالى- في وجوبها بعد اتفاقهم على مشروعيتها، فذهب إلى وجوبها الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، وهو قول الأوزاعي والليث ومذهب أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب مالك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والأظهر وجوبها، فإنها من أعظم شعائر الإسلام، وهي النسك العام في جميع الأمصار، والنسك مقرون بالصلاة، وهي من ملة إبراهيم الذي أمرنا باتباع ملته) ا. هـ.
وليس المقصود من الأضحية مجرد الانتفاع من اللحم؛ بل المقصود الأعظم منها التقرب إلى الله تعالى وتعظيمه بالذبح له؛ ولهذا خصت بالنوع والسن والوصف والزمن، فلا تجزئ إلا من بهيمة الأنعام (الإبل والبقر والغنم), ولا تجزئ إلا بما كان جذعًا من الضأن أو ثنيًا مما سواه، ولا تجزئ إلا بما كان سليمًا من العيوب المانعة من الإجزاء، ولا تجزئ إلا في وقت معين من بعد صلاة عيد الأضحى إلى آخر أيام التشريق؛ ولهذا فرق النبي -صلى الله عليه وسلم- بين شاة اللحم وشاة الأضحية، ففي صحيح البخاري عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- أن النبي-صلى الله عليه وسلم- خطبهم يوم النحر بعد الصلاة, وقال: «من صلى صلاتنا، ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم»، فقام أبو بردة بن نيار فقال: يا رسول الله، والله لقد نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «تلك شاة لحم»، وفي الصحيح أيضًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى يوم النحر ثم ذبح وقال: «من ذبح قبل أن يصلي فليذبح أخرى مكانها».
ففرق النبي -صلى الله عليه وسلم- بين شاة النسك وشاة اللحم، ولو كان المقصود اللحم لم يكن هناك فرق، ولأجزأت من كل نوع من الحيوان المأكول، وبأي سن كان، وعلى أي وصف، وفي أي وقت؛
ولهذا لو تصدق الرجل بألف كيلو من اللحم لم يجزئ عن الأضحية بشاة تبلغ أربعين كيلو أو نحوها.
قال ابن القيم -رحمه الله-: (فإن نفس الذبح وإراقة الدم مقصود، فإنه عبادة مقرونة بالصلاة؛ كما قال تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّك وَانْحَرْ﴾[الكوثر: 2]، وقال: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الأنعام: 162]؛ -ثم قال: - ولهذا لو تصدق عن دم المتعة والقران بأضعاف أضعاف القيمة لم يقم مقامه, وكذلك الأضحية) ا. هـ.
فإذا تبين ذلك: فإن إرسال قيمة الأضاحي إلى بلاد أخرى من البلاد الإسلامية؛ ليضحى بها هناك تفوت به مصالح كثيرة؛ منها:
1- ظهور شعائر الله تعالى في البلاد الإسلامية، فإن الناس إذا أرسلوا قيمة ضحاياهم لبلاد أخرى خليت بلادهم من هذه الشعيرة وفات ظهورها في بلادهم، وتعميم ظهور شعائر الله تعالى في بلاد
الإسلام مقصود شرعي؛ ولهذا لما شرع الهدي للحجاج في مكة، شرع لغيرهم الأضاحي في البلاد الأخرى؛ لتظهر شعيرة الذبح في جميع البلاد الإسلامية.
2- مباشرة المضحي ذبح أضحيته بنفسه، فإن المشروع أن يباشر المضحي ذبح أضحيته بنفسه؛ كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعل ذلك، فإذا أرسلت القيمة إلى بلاد أخرى فاتت هذه السنة، وقد قال أهل العلم: إن المضحي إذا كان لا يحسن الذبح فالأفضل أن يحضر ذبحها.
3- التعبد لله تعالى بذكر اسمه على الذبيحة، وهذا عبادة أمر الله بها في قوله: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ الله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَيْهَا صَوَافَّ﴾[الحج: 36]، وجعله تعالى الغاية في هذه القربان حيث قال: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾[الحج: 34]، فإذا أرسلت القيمة ليضحى في بلاد أخرى فات على المضحي أن يتعبد لله تعالى بذكر اسمه على أضحيته.
4- التعبد لله تعالى بالأكل من الأضحية، فإن الأكل من الأضحية عبادة أمر الله تعالى بها في قوله: ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾[الحج: 28]، وقال: ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ﴾[الحج: 36], وقد ذهب بعض العلماء: إلى وجوب الأكل منها، فإذا أرسلت القيمة إلى بلاد أخرى ليضحى بها هناك فات هذا التعبد، ويكون المضحي آثماً على قول من يقول بوجوب الأكل، ولكن الصحيح: عدم وجوب الأكل، فلا يكون آثمًا من لم يأكل، ولكن أكله أفضل.
فهذه المصالح الأربع كلها تفوت بإرسال قيمة الأضاحي إلى بلاد أخرى؛ ليضحى بها هناك.
فإن قال قائل: أليس قد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يبعث بالهدي إلى مكة فيذبح هناك, والنبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، وهذا يدل على جواز بعث النسيكة إلى بلد آخر.
بلى قد كان ذلك، ولكن الهدي خاص بمكة؛ فلابد من البعث به إليها، بخلاف الأضحية فإنها في كل البلاد فلا حاجة إلى نقلها لبلد آخر، بل نقلها يفوت به ما سبق من المصالح.
فإن قال قائل: أليس قد وكل النبي -صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب لينحر ما بقي من هديه في حجة الوداع مع حضور النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا يدل على جواز التوكيل في ذبح النسيكة؟ ف بلى، ولكن كان ذلك في البلد الذي كان فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, والحاجة داعية إليه، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان قد أهدى مئة بعير، ونحر منها ثلاثًا وستين، وأعطى عليًّا الباقي لينحره، وكان قد أشركه في هديه، والناس في حاجة إلى تفرغ النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمورهم، وقد أمر النبي من كل بدنة ببضعه، فجعلت في قدر فطبخت، فأكل من لحمها وشرب من مرقها.
فإن قال قائل: إخواننا في البلاد الإسلامية أو بعضها في حاجة لمثل هذا اللحم؟ ف أنه بالإمكان أن تدفع حاجتهم بغير ذلك بإرسال الدراهم والثياب والأطعمة والفرش ونحوها، ويحصل جمها المقصود، ولا تفوت المصالح المترتبة على ذبح الضحايا في بلاد المضحين.
هذا ما يتعلق بالجواب وإنما بسطت القول فيه لكثرة السؤال عنه.
والله أسأل أن يوفقنا وإخواننا المسلمين لما فيه رضاه ونفع عباده، إنه سميع مجيب الدعوات.
كتبه محمد الصالح العثيمين في 27/12/1411 هـ.
المصدر:
مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين(25/66- 72)

هل انتفعت بهذه الإجابة؟