الأربعاء 16 شوّال 1445 هـ

تاريخ النشر : 24-03-2020

بيان قصة الغرانيق

الجواب
قصة الغرانيق ذكرها كثير من علماء التفسير عند تفسيرهم قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾[الحج: 52] الآيات من سورة الحج، وعند تفسيرهم قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى*وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾[النجم: 19-20] الآيات من سورة النجم، ورووها من طرق عدة بألفاظ مختلفة، غير أنها كلها رويت من طرق مرسلة، ولم ترد مسندة من طرق صحيحة، كما قال ذلك الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره، فإنه لما ساق هذه القصة بطرقها قال بعدها: (وكلها مرسلات ومنقطعات) اهـ .
وقال ابن خزيمة: إن هذه القصة من وضع الزنادقة، اهـ. واستنكرها أيضا أبو بكر بن العربي والقاضي عياض وآخرون سندًا ومتنًا، أما السند فبما تقدم، وأما المتن فبما ذكره ابن العربي من أن الله تعالى إذا أرسل الملك إلى رسوله خلق فيه العلم بأن من يوحى إليه هو الملك، فلا يمكن أن يلقي الشيطان على لسانه شيئا يلتبس عليه فيتلوه على أنه قرآن وللإجماع على عصمة الرسول-صلى الله عليه وسلم- من الشرك فيمتنع أن يتكلم بكلمة: (تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى) سهوا أو ظنا منه أنها قرآن، ولأنه يستحيل أن يؤثر الرسول-صلى الله عليه وسلم-صلة قومه؛ ورضاهم على صلة ربه ورضاه، فيتمنى ألا ينزل الله عليه ما يغضب قومه حرصا منه على رضاهم، ثم ما استدل به على ثبوت القصة من قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ﴾[الإسراء: 73] لا يدل على صحتها، بل يدل على براءة النبي-صلى الله عليه وسلم- مما نسب إليه من تلاوة هذه الكلمة الشركية؛ لأنها تفيد النفي لا الإثبات، ولأنها تفيد أن الشيطان ألقى في أمنيته: أي تلاوته، وليس فيها أن الشيطان ألقى على لسانه تلك الكلمات الشركية، أو ألقاها في نفسه فتلاها أو قرأها أو تكلم بها سهوا أو غلطا أو قصدا حتى جاء جبريل وأنكر عليه وأصلح له ما أخطأ فيه، وأسف-صلى الله عليه وسلم-أسفا شديدا على ما فرط منه، ولم يثبت أن الآية نزلت تسلية للرسول-صلى الله عليه وسلم- فيما أصيب به مما ذكر في هذه القصة حتى يكون مساعدا على تأويلها بما جاء فيها من المنكرات.
وقد وافق جمهور أهل السنة ابن العربي فيما ذكره، وذكروا أن معنى الآية: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تلا ما أنزلنا عليه من الوحي أو تكلم به ألقى شيطان الإنس أو الجن أثناء تلاوته أو خلال حديثه وكلامه قولا يتكلم به الشيطان ويسمعه الحاضرون، أو يوسوس الشيطان وساوس يلقيها في نفوس الكفار ومرضى القلوب من المنافقين فيحسبها أولئك من الوحي وليست منه، فيبطل الله ما ألقى الشيطان من القول أو الشبه والوسوسة ويزيله، ويحق الحق بكلماته لكمال علمه، وبالغ حكمته، وهذه سنة الله مع رسله وأنبيائه وأعدائه وأعدائهم، ليتم معنى الابتلاء والامتحان ويميز الخبيث من الطيب، ليهلك من هلك بما ألقى الشيطان من الكفار ومرضى القلوب، ويحيى من حي عن بينة من أهل العلم واليقين الذين اطمأنت قلوبهم بالإيمان وهدوا إلى صراط مستقيم.
ومما تقدم يتبين أن روايات قصة الغرانيق ليست صحيحة، وأنه ليس للشيطان سلطان أن يلقي على لسان النبي-صلى الله عليه وسلم- شيئا من الباطل فيتلوه أو يتكلم به، وربما ألقى الشيطان قولا أثناء تلاوة النبي-صلى الله عليه وسلم- يتكلم به الشيطان ويسمعه الحاضرون أو يوسوس الشيطان وساوس يلقيها في نفوس الكفار ومرضى القلوب من المنافقين فيحسبها أولئك من الوحي وليست منه، فيبطل الله ذلك القول الشيطاني، ويزيل الشبه ويحكم آياته، ويتبين أيضا أن ما قاله الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- هو قول جمهور العلماء، من أن الشيطان ألقى قولا أو وسوسة أثناء التلاوة، ولكنها ليست على لسان النبي-صلى الله عليه وسلم- ولا في نفسه ولا في نفس من صدق في إيمانه به، إنما ذلكم إلقاء من الشيطان أثناء التلاوة في أسماع الكفار، أو حديث نفس وقع في أسماعهم وقلوبهم فحسبوه قرآنا متلوا، وتأبى حكمة الله إلا أن يزيل الباطل ويحكم آياته؛ إحقاقا للحق، ورحمة بالعباد والله عليم حكيم، وقد أجمع علماء الإسلام كلهم على عصمة الرسل جميعا في كل ما يبلغونه عن الله عز وجل.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
المصدر:
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(4/312- 315)
عبد الله بن قعود ... عضو
عبد الله بن غديان ... عضو
عبد الرزاق عفيفي ... نائب رئيس اللجنة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... الرئيس

هل انتفعت بهذه الإجابة؟