الإثنين 28 شوّال 1445 هـ

تاريخ النشر : 23-03-2020

تاب من البدع فهل يتوب الله عليه؟ وهل كان ذلك مقدرا عليه في الأزل؟

الجواب
قبل الإجابة على هذا السؤال أحب أن أهنئ الأخ الذي منّ الله عليه بالاستقامة ولزوم الصراط المستقيم، بعد أن كان منحرفاً في متاهات البدع والضلال، فإن هذا من نعم الله، بل هو أكبر نعمة ينعم الله بها على العبد: أن يتوب الله عليه فيتوب إلى ربه، ويقلع عن غيه إلى رشده، يقول الله -عز وجل- ممتنّاً على المؤمنين بمثل ذلك: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾[المائدة: 3]. ويقول تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾[آل عمران: 164]. ويقول -جل وعلا-: ﴿بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[الحجرات: 17]. فالهداية للإيمان من أكبر النعم بل هي أكبر نعمة أنعم الله بها على العبد، فأسأل الله أن يثبتني وإخواني المسلمين على دينه المستقيم، إنه جواد كريم.
أما بالنسبة للجواب على سؤاله فإني أقول له: إذا تاب الإنسان من أي ذنب كان فإن الله يتوب عليه، ويمحو عنه سيئاته؛ لأن الإسلام يهدم ما قبله، والتوبة تجُّب ما قبلها. قال الله -عز وجل-: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾[الزمر: 53]. وقال تعالى: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[المائدة: 39]. وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾[الفرقان: 68- 70].
والنصوص في هذا كثيرة من كتاب الله وسنة رسوله-صلى الله عليه وسلم- كلها تدل على أن الله إذا منّ على العبد بالتوبة النصوح فإن الله يتوب عليه ويبدل سيئاته حسنات، إذا تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فكل ما جرى عليك من اعتناق الطرق والمذاهب الهدامة والزيغ والضلال فإنه يمحى برجوعك إلى الحق.
وأما الفقرة الثانية في السؤال، وهي: أن هذا الذي عمله هل كان مكتوباً عليه في الأزل، وبعلم من الله -عز وجل-؟
فنقول: نعم، هو مكتوب عليه في الأزل، مكتوب عليه العمل السيئ السابق، ومكتوب له التوبة الأخيرة التي منّ الله بها عليه، وكل ذلك بعلم من الله سبحانه وتعالى، يقول الله -عز وجل-: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾[الحج: 70] ويقول جل ذكره: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾[الأنعام: 59].
فعلم الله -سبحانه وتعالى- محيط بكل شيء جملة وتفصيلاً، وهذا أمر متفق عليه بين علماء المسلمين والحمد لله، وهو إحدى مراتب الإيمان بالقضاء والقدر، فإن الإيمان بالقضاء والقدر مراتب أربع:
الأولى: الإيمان بعلم الله المحيط بكل شيء جملة وتفصيلاً، بمعنى: أن تؤمن بأن الله تعالى عالم بكل شيء جملة وتفصيلاً ما كان وما لم يكن.
والمرتبة الثانية: أن تؤمن بأن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء إلى أن تقوم الساعة، فإن الله -سبحانه وتعالى- يقول: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾[الحج: 70]، «أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب. قال وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة».
أما المرتبة الثالثة فهي: الإيمان بعموم مشيئة الله، فهي أن تؤمن بأن كل ما في الكون فهو واقع بمشيئة الله، لا يخرج عن مشيئته شيء لا من فعله ولا من فعل عباده، والنصوص في هذا كثيرة، ومنها قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾[البقرة: 253]. فبين الله -عز وجل- أن اقتتال هؤلاء المختلفين كان بمشيئته. وقال سبحانه وتعالى: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾[التكوير: 28- 29].
وأجمع المسلمون على هذه الكلمة العظيمة: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. فما في الكون شيء يحدث عدماً أو وجوداً إلا وهو بمشيئة الله -سبحانه وتعالى-.
أما المرتبة الرابعة فهي: الإيمان بعموم خلق الله، أي: أن تؤمن بأن كل ما في الكون فهو مخلوق لله -عز وجل- في أعيانه وفي أوصافه، كما قال الله تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً﴾[الفرقان: 2]. وقال تعالى: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾[الزمر: 62]. حتى العبد مخلوق لله تعالى بعينه وشخصه، وبأوصافه وقواه الظاهرة والباطنة، وبما ينشأ عن تلك القوى، فأفعال العبد مثلاً مخلوقة لله، باعتبار أن هذه الأفعال ناشئة عن قدرة في العبد وإرادة، والقدرة والإرادة من صفات العبد، والعبد مخلوق لله، فأوصافه كذلك مخلوقة له أي لله. فكما أن الأوصاف الخَلْقية الظاهرة مخلوقة لله، فكذلك الأوصاف الخُلُقية والفكرية الباطنة مخلوقة لله كذلك. وهذه المراتب الأربع يؤمن بها أهل السنة والجماعة جميعها، فعلينا أن نؤمن بها ونصدق، لكن مع ذلك نعلم علم اليقين أن للإنسان إرادة وقدرة، فهو يريد الشيء فعلاً وتركاً أي: يريد أن يفعل فيفعل إذا كان له قدرة، ويريد أن يترك فيترك، ولكن خالق القدرة وخالق الإرادة هو الله -عز وجل- ، فهو يُنْسَبْ- أي: فعل العبد- إلى الله تعالى خلقاً وإرادة، وإلى العبد فعلاً وكسباً، مع أنه داخل تحت إرادة العبد وقدرته، فلولا أن الله تعالى أقدر العبد على الفعل ما فعل؛ لعجزه عنه، ولولا أن الله خلق فيه الإرادة ما فعل؛ لعدم وجود الإرادة.
المصدر:
الشيخ ابن عثيمين من فتاوى نور على الدرب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟